علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

أخطاء لويس عوض وتناقضاته

استمع إلى المقالة

كنت في المقال السابق قد أجلّت ذكرَ بعضِ الأخطاء الصغيرة والأخطاء الكبيرة في حديث لويس عوض عن إنشاءِ المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب في مصر في محاضرته «التطور الثقافي في مصر منذ 1952».

ولنبدأ من الأخطاء الصغيرة.

لويس عوض كانَ قد أرَّخَ لنشأة ذلك المجلس بعام 1955. وكنت في المقال قبل السابق قد ذكرت أنَّه أنشئ في الأيام الأخيرة من الشهر الأول لعام 1956.

وحسب العام الذي حدَّده، عام 1955، لم تكن في مصر وزارةٌ اسمُها وزارة المعارف. فهذه الوزارة تغيَّر اسمُها من وزارة المعارف العمومية من 2 سبتمبر (أيلول) 1954 إلى اسم وزارة التربية والتعليم. فالمسمَّى الصحيح لمنصب كمال الدين حسين في العام الذي توهَّمه لويس عوض وفي العام الدقيق لإنشاء المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب هو وزير التربية والتعليم وليس وزير المعارف.

قال لويس عوض عن كمال الدين حسين - بعد أن صنَّفه على أنَّه من أصحاب اليمين - أنَّه هو الذي أنشأ المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب!

ثم ربطَ فكرةَ إنشاءِ هذا المجلس وبرنامجه بشيء ذكّره بما حدث في روسيا عام 1917، وقال موضحاً هذا الربط أكثر: «في بداية الثورة الروسية كانَ الناس قلقين على ما يسمى عادة بالتراث، وهكذا أظنُّ أنَّه في أيام لينين الأولى أصرَّ لينين وتروتسكي على تنحية ممثلي الجديد، وعلى تكريم الأشخاص الذين يمثلون التراث... ولذا فالذي حدث سنة 1955، أن كمال الدين حسين حشد جميع المستميتين المتزمتين في الأدب المصري وحشرهم معاً في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب ودعاهم سدنة الثقافة في البلاد».

وبموضوعية، فهذا الربطُ يقوم على الكثير من التكلف والاعتساف.

لا أنفي صحةَ تصنيف لويس عوض لكمال الدين حسين بأنَّه كانَ من أصحاب اليمين، وإنَّما أنفي أن يكون من أصحاب الثقافة المحترفين. استناداً إلى هذا الحكم الذي يعلم به الملمُّون بسيرته، نسأل: كيف يتأتّى لوزير محدود الثقافة أن تنقدحَ في رأسه فكرة إنشاء مجلس أعلى لرعاية الفنون والآداب، أو أن يستعيرها من تجربة قائمة في دولة غربية ديمقراطية أو في دولة شمولية شيوعية؟!

كل ما في الأمر أنَّ الفكرة وبرنامجها قدّمَا إلى جمال عبد الناصر، وطرحها على مجلس وزرائه، وقرروا وضعها في شكل هيئة مستقلة ملحقة بمجلس الوزراء. وأسند منصبَ رئاسة المجلس الأعلى للفنون والآداب وقت إنشائه إلى وزير التربية والتعليم كمال الدين حسين.

ولنلحظ أنَّه في عام إنشاء هذا المجلس، لم تكن وزارة الثقافة قد أنشئت بعد. فالثقافة في ذلك العام وفي أعوام قبله كانت شؤونها موكلة إلى وزارة الإرشاد القومي، التي هي في تسمية أخرى وزارة الإعلام.

وبعد مدة من إنشاء وزارة الثقافة والإرشاد القومي في 26 يونيو (حزيران) عام 1958، شاركت هذه الوزارة وزارة التربية والتعليم الإشراف على ذلك المجلس، ثم في عام 1962 ضمَّ إليها هذا المجلس بالكامل. كما أنَّه في عام 1958، كانت العلوم الاجتماعية أضيفت رعايتها إلى رعاية الفنون والآداب في هذا المجلس.

هل صحيح ما قال لويس عوض بأن كمال الدين حسين حشد جميع المستميتين المتزمتين في الأدب المصري في هذا المجلس؟

إنَّنا إن نظرنا إلى أسماء أول تشكيل لمقرري وأعضاء المجلس الأعلى للفنون والآداب، سنعلم أن قوله هذا قولٌ غير صحيح. فمن بين أسماء مقرري اللجان، اسم توفيق الحكيم ويحيى حقي وحسين فوزي وطه حسين والعقاد.

صحيح أن العقاد موسوم عند الماركسيين واليساريين وأصحاب الشعر الجديد بالرجعية الفكرية والرجعية الأدبية، لكن لويس عوض في كل ما كتبه عن العقاد، لم يسمه بهذه السمة، رغم أنه يساري التوجه.

في عام متأخر، وهو عام 2002، بعد مضي سنوات على وفاة إحسان عبد القدوس، كشف عبد الرحمن أبو عوف من هو صاحب فكرة ومؤسس وكاتب مذكرة إنشاء المجلس الأعلى للفنون والآداب، وذلك في مقاله «تجديد ذكرى إحسان عبد القدوس، فارس الحريّة». ففي هذا المقال، ذكر أنَّ إحسان عبد القدوس قدَّمها لعبد الناصر، وأحيلت إلى كمال الدين حسين، غير أنَّ إحسان فوجئ برجل الثقة، يوسف السباعي، يخطره أنه استبعد من العضوية العليا للمجلس بعد إنشائه إلى مجرد عضو مهمش في إحدى لجان المجلس.

اللجنة التي يعنيها عبد الرحمن أبو عوف هي لجنة السينما، التي كان مقررها يوسف السباعي.

ومما له صلة بهذه القضية، هو هجوم لويس عوض المبطّن على ثروت عكاشة، وذلك حين قال: «على أي حال جاء وقت أجبر فيه يساريو البلاد على الصمت والذين ملأوا الفراغ كانوا الرومانطيقيين. وهكذا فالأدب الذي نتج خلال أربع أو خمس سنوات – أظن بين 1958 و1962، أو 1963- كان يقوده الدكتور ثروت عكاشة الذي تخصص في جبران. ترجم أربعة كتب لجبران وألّف كتاباً عن فاجنر».

محمد يوسف نجم مترجم محاضرته من اللغة الإنجليزية إلى اللغة العربية، ذكّر القراء بأن لويس عوض قدم كتابه «دراسات في الأدب والنقد» إلى الدكتور ثروت عكاشة، وقال في التقديم: «اعترافاً بفضله على ثقافتنا الحديثة».

كتاب لويس عوض هذا صدر في فبراير (شباط) 1963. أي في العام الذي لم يعد فيه ثروت عكاشة وزيراً للثقافة في الفترة الأولى من تقلده لهذا المنصب. ثروت عكاشة حين كان وزيراً للثقافة في الفترة الأولى من 8 أكتوبر (تشرين الأول) 1958 إلى 27 سبتمبر 1962، صدر له كتابان من ترجماته لأعمال جبران خليل جبران، وهما «النبي» عام 1959، و«حديقة النبي» عام 1960. أما ترجمته لكتاب جبران خليل جبران «عيسى ابن الإنسان» الصادر عام 1962، فقد صدر في الشهر الذي كان يشغل فيه منصب رئيس مجلس إدارة البنك الأهلي المصري. وكذلك ترجمته لكتابي جبران «رمل وزبد» الصادر عام 1963، و«أرباب الأرض» الصادر عام 1965، فلقد صدرت هاتان الترجمتان أثناء شغله لهذا المنصب.

وكتابه «مولع بفاجنر» الصادر عام 1965، وهو ليس تأليفاً وإنما ترجمة لكتاب ألّفه برناردشو.

لا أدري ما سبب هجوم لويس عوض المبطن على ثروت عكاشة في أثناء الفترة الأولى من توليه منصب وزارة الثقافة. وعلى الأغلب أنه موقف لحظوي، أتى ليتلاءم مع سياق محاضرته التي تقوم على تهجمات على مسار الثقافة في مصر من عام 1936، الذي عدّه عام القضاء على الديمقراطية الأدبية، إلى كامل عهد حكم رجال الثورة وحكم عبد الناصر. فله مقالات عدة في الثناء على تجربتي ثروت عكاشة في وزارة الثقافة. ومنها مقاله «محاذير ثقافية» الذي كتبه اعتراضاً على إدماج الثقافة في وزارة الإعلام للمرة الثانية في مصر. هذا المقال كتبه في شهر ديسمبر عام 1970، أي قبل ما يقرب من عام من إلقائه محاضرته «التطور الثقافي في مصر منذ عام 1952».

هذا المقال منع نشره محمد حسنين هيكل، رئيس تحرير جريدة «الأهرام»، وقتذاك، فنشره لويس عوض في كتابه «ثقافتنا في مفترق الطرق» الصادر في بيروت عام 1974.

ثروت عكاشة في كتابه «مذكراتي في السياسة والثقافة» الصادر عام 1988، في الدفاع عن تجربتيه في وزارة الثقافة في مصر، استند إلى مقالتين أو ثلاث من مقالات لويس عوض التي أشير إليها.

وثروت عكاشة في هذا الكتاب نص على أن لويس عوض هو أستاذ له. وأكد أنه يتعامل معه بهذه الصفة. ومن منطلق تقديره له أقنعه حين كان يعمل أستاذاً في جامعة دمشق بأن يكون مديراً عاماً لإدارة الثقافة. وعمل في هذا المنصب من 10 ديسمبر 1958 إلى أن اعتقل في 28 مارس (آذار) 1959 بتهمة الشيوعية.

وقد تشفع له ثروت لأن يُطلق سراحه عند جمال عبد الناصر، وعند وزير الداخلية نافياً عنه تهمة الشيوعية، لكن شفاعته عندهما لم تفلح.

وتشفع له مرة ثانية مع محمد حسنين هيكل، فكان من أوائل المفرج عنهم المتهمين بالشيوعية عام 1961.

ولما تولى ثروت عكاشة وزارة الثقافة في الفترة الثانية عام 1966، عينه عضواً بمجلس إدارة مؤسسة المسرح والسينما.

ولويس عوض في مقال من مقالاته عن وزارة الثقافة في مصر، أشار إلى أنه مع تولي ثروت عكاشة وزارة الثقافة يحضر اليساريون، ومع تولي عبد القادر حاتم وزارتها يغيب اليساريون. وهذا لا يعني أن ثروت عكاشة كان يسارياً، بل هو ليبرالي صميم.

ومما يتناقض مع ما قاله لويس عوض عن مسار الثقافة في الحقبة الناصرية في تلك المحاضرة، أربع مقالات نشرت له في مجلة «المصور» عام 1983، تحت عنوان «الثورة والثقافة»، دافع فيها عن تلك الحقبة في أكثر من ناحية بحرارة وحماسة ملتهبة، وكانت أبرز هذه النواحي التي دافع عنها، هي الناحية الثقافية.

هذه المقالات أعاد نشرها في كتابه «دراسات أدبية» الصادر عام 1989.

اعتاد لويس عوض أن يعيد نشر مقالاته وأبحاثه ومحاضراته في كتب. ومن اللافت أن محاضرته عن التطور الثقافي في مصر منذ عام 1952 لم يعد نشرها في أي كتاب من كتبه! وللحديث بقية.