روى هذه القصة زميل لديه ابنة في مدرسة ابتدائية بمدينة «أكتون»، غرب العاصمة البريطانية لندن. وخلاصتها أن المعلمة سألت الطالبات عما فعلن في نهاية الأسبوع، فأخبرتها الطفلة بأنها ذهبت مع أمها إلى مكتب البريد ومحل الخضار والمكتبة المحلية. فطلبت منها أن تعمل خلال الأسبوع الحالي على رسم خريطة الطريق الذي تسلكه من منزلها إلى تلك المواقع. وهذا سيكون واجبها المنزلي الوحيد. في الأسبوع التالي اتصلت المعلمة بالمنزل وسألت الأب: هل ساعدت ابنتك في رسم الخريطة؟ فقال إنه شعر بالحاجة لمساعدتها، لأنها ما كانت قادرة على رسم الخريطة وحدها. فعاتبته المعلمة قائلة: «إنك للتو دربت الطفلة على الاستهانة بعقلها، وهذا أمر سيئ». المراد - على أي حال - ليس الخريطة المتقنة أو المعيبة، بل تدريب الأطفال على استعادة التفاصيل التي يمرون بها، التوقف عندها والتفكير في علاقتها ببعضها، ثم تخيل الخطوط التي تربط بينها. جوهر المراد هو شحذ التفكير والتذكر، وليس رسم الخريطة. وهذا لا يتحقق إذا ساعدها أحد على ذلك. وأردفت أن واجبهم في المدرسة هو تعليم الأطفال فن التفكير.
يقول زميلي إن هذه القصة شغلت ذهنه لفترة طويلة. ولطالما حدث نفسه متسائلا: هل يمثل موضوعها جوهر الفارق بين ثقافة المجتمعات الصناعية ونظيرتها النامية؟ هل نستطيع القول إنها نقطة البداية في بناء جيل يستوعب تحديات المستقبل؟
بيان ذلك: جرت العادة على القول إن الدور التعليمي للمدرسة يتركز على زيادة حجم المعارف التي يستعملها التلميذ.
إذا قبلنا بهذا التوصيف، فسيأتينا سؤال ضروري:
- ما المعارف التي نريد تعليمها لأبنائنا؟
هذا سؤال عريض. لهذا سيذهب الجواب - بالضرورة - إلى التعريف النسبي، الذي يعالج جانبا واحدا فحسب. ومن هنا اقترح التركيز على نسبة التعليم إلى زمنه. ربط الفكرة بالزمن يعني أن جواب اليوم قد يخالف جواب الأمس، مع أن كليهما صحيح في وقته. ما يميز بين زمن وآخر هو نوعية الثقافة التي تبنى على أساسها منظومات القيم والمعايير والعلاقات الداخلية، ولا سيما العلاقة بين الأجيال القديمة والجديدة/الآباء والأبناء. وتتفرع منها مناهج التعليم وطرق التربية وتقاليد العمل.
تمتاز العائلات العربية بالشفقة على الأبناء. ولهذا يلتزم الأبوان مساعدة أطفالهما في حل الواجبات المدرسية ومذاكرة الدروس. ولأن هذه الثقافة سائدة أيضا في نظام التعليم، فقد اعتاد المعلمون تكليف الأطفال كماً كبيراً من الواجبات المنزلية، مع علمهم بأن المجتهد الحقيقي هو أم الطفل وليس الطفل. ولأن المطلوب هو إنتاج الأشياء البديعة وليس البشر الأذكياء، فقد ابتكرنا حلولا سهلة للعائلات المشغولة، فأقيمت دكاكين تبيع حلول الواجبات ورسوم الوسائل التعليمية، وغير ذلك مما يطلب من التلاميذ.
الذي يحدث في هذه الحالة هو تعليم التلميذ كيف يتهرب من تحمل المسؤولية، بتحويلها إلى أمه، أو تعليمه فنون الاستهلاك بشراء المطلوب من السوق، وليس الاجتهاد في إنجازها بنفسه.
أما الذي يحدث في المكان الآخر، الذي يعيش في زمن ثقافي مختلف، فهو التركيز على قيام التلميذ بإنجاز الواجب حتى لو أخطأ فيه. لأنه في الأساس وسيلة لغاية أخرى، هي تعويده على التفكير والتذكر والتأمل في العاديات والأمور البسيطة التي يمر عليها كل يوم. والذين يفكرون يخطئون كثيرا قبل أن يصيبوا أول غاياتهم.
أما وقد وصلنا إلى هذه النقطة، فلعلنا نستذكر أن واحدا من التعريفات المهمة للحداثة هو أنها: تقديس اللحظة الراهنة ثم الانطلاق منها للتفكير في بقية الأزمنة. في الرؤية الحداثية للعالم، يتحدثون إذن عن الزمن الحاضر وعن المكان الحاضر، لأننا ننتمي إليه وننطلق منه. إذا فكرنا بعمق في الذي حولنا، فسوف نصل إلى ما وراءه، أي إلى الغيب الذي تخفيه جدران المكان أو الزمان أو قلة المعرفة.
حسناً، ما الذي ستفعلون الآن، هل سترسمون الخريطة، أم تدعون أبناءكم يتأملون في عالمهم؟