عبدالله بن بجاد العتيبي
كاتب سعودي مهتم بالحركات الإسلامية والتغيرات في الدول العربية، وله عدة مؤلفات حول ذلك منها «ضد الربيع العربي» وله أبحاث منها: «القابلية للعنف والقيم البدوية»، نشر في 2006. و«السرورية» 2007. و«الولاء والبراء، آيديولوجية المعارضة السياسية في الإسلام» 2007. و«الإخوان المسلمون والسعودية الهجرة والعلاقة» 2010. قدم عدداً من الأوراق البحثية للعديد من مراكز الدراسات والصحف. شارك في العديد من المؤتمرات والندوات، وهو خريج جامعة المقاصد في بيروت في تخصص الدراسات الإسلامية.
TT

فلسطين... شروط الواقع وانتصار العقل

استمع إلى المقالة

بهدوء يليق بالعقل تفتيشاً عن مخرجٍ، بدأ كثيرٌ من الأصوات الصاخبة تتحوّل في قراءتها للأزمة والحرب في غزة، من كانوا يقولون انتصرت «حماس» بدأوا يركزون أكثر على أن إسرائيل ظالمة ومتجبرة، وأن الدول الغربية منحازةٌ، وبعضهم يركز على تعاطفٍ غربيٍ في السوشيال ميديا لم يكن ظاهراً من قبل بوصف ذلك تغيراً كبيراً في الموقف الغربي، المهم أن مقولة النصر لم يعد يكررها أحد.

العقل ينتصر في النهاية؛ لأن شروط الواقع صارمة، فلا نصر وثلاثة أرباع الأرض مدمرةٌ بالكامل، ولا نصر وعشرات الآلاف قتلى وأكثر منهم مصابون والنازحون داخل القطاع تجاوزوا المليون، هذا في كل اللغات المتعددة وفي منطق العقل لا يسمى نصراً، وإلا عانى البشر من فقدان المعاني ولم تعد اللغة معبراً حقيقياً عن التواصل والأفكار، والتفكير الرغبوي المتطرف والتفسيرات الماورائية أو الغيبية لا علاقة لها بالسياسة والواقع، وإن كانت تستخدم للتحشيد أو للتعزية عن واقعٍ مريرٍ.

انتهت مقولة أن بعض الفصائل انتصرت في حرب غزة القائمة، وإلا لفقدت اللغة معناها، ولأمكن أن نقول انتصر المسلمون في الأندلس وإن طردوا منها في حروبٍ شرسةٍ شرّ طردةٍ، ومثل أن يقال مثلاً إن «الاتحاد السوفياتي» انتصر في الحرب الباردة وإن «تفكك» و«انتهى»، أو يقال إن العرب انتصروا في حرب 1967 رغم أنهم خسروا أراضي ضخمةً جداً تفوق مساحة إسرائيل بكثيرٍ، وهكذا في أمثلة لا تحصى، وبالتالي فقد تراجعت مقولة النصر لصالح التوصيف الواقعي لما جرى ويجري اليوم في غزة المظلومة.

ستبقى فئة قليلةٌ دائماً تقول ما لا يعقل، وتنشر ما لا يصدق، ولكنها تذهب للهامش وتتراجع في التأثير، لأن الدخول في حالة إنكارٍ عاطفيةٍ لا يغير الحقائق ولا يعكس النتائج الواقعية ويظل تفكيراً خرافياً له أتباعه، ولكنهم يتناقصون أو ينزوي أثرهم ليدخلوا في فضاء لا ينتمي لهذا العالم وقواعده ولا للواقع وشروطه.

بدأت تخرج من قيادات «حماس» مواقف متكررة خلال الحرب القائمة، بدأها إسماعيل هنية بداية نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وتوالت بعدها مواقف موسى أبو مرزوق وبعض بيانات الحركة الرسمية، وكلها تصبّ في نقطةٍ واحدةٍ وهي الموافقة الصريحة على ما وافقت عليه «منظمة التحرير» الفلسطينية في اتفاقية «أوسلو» 1993 والعودة إلى الموقف السياسي الذي تتبناه السلطة الفلسطينية وتدعمها فيه كل الدول العربية وتتبناه «المبادرة العربية» رسمياً.

هنا لحظة كاشفة للوعي، يجب أن توضع فيها النقاط على الحروف، وأن يصبح الشباب العربي قادراً على قراءة الأحداث الساخنة والحرب بعقلانية وواقعية حتى لا يكرر أخطاء أجيالٍ فنيت أعمارها خلف الشعارات، وأُترعت بالهزائم النكراء على أرض الواقع، وحتى يمكن صنع حصانة للوعي من الانحراف، وحتى يسهل اكتشاف الشعبويين من النخب الثقافية والسياسية، لأن حروب المنطقة وصراعاتها لن تتوقف، وستستمر في الحدوث بين فينةٍ وأخرى، ولا شيء يخرج جيلاً واعياً مثل وضع قراءاتٍ هادئةٍ وواعية ومحكمةٍ للحدث الساخن ونتائجه أمام أعين الجميع، وتكثيف الأعمال الصحافية والبرامج التلفزيونية واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي لنشر ما جرى وتفاصيله وآثاره.

بالتوصيف السياسي الهادئ، فإنَّ «حماس» بدأت تتقرب من مواقف «السلطة الفلسطينية»، وتتقرب من «منظمة التحرير»، ومن حق أي فلسطيني أن يردد مع بدوي الجبل: «ما كان أغناكمُ عنها وأغنانا».

وضع سياقات للأحداث الجارية مهمٌ، فكشف السياق السياسي الذي اتخذ فيه قرار الحرب، ولأي المحاور السياسية في المنطقة ينتمي، يرفع الوعي السياسي، وكشف السياق التاريخي الذي تطورت فيه السياسات والمواقف ونتائجها ومن تقدم ومن تأخر ومن كسب ومن خسر، يرفع الوعي بالتاريخ وأثره في الواقع، ووضع جردة حسابٍ مفصلةٍ للآثار الاقتصادية والمادية بالأرقام والإحصائيات يبيّن حجم الخسائر الهائلة دون مقابل يذكر، ثم كشف الخسائر الإنسانية في القتل والإصابة والنزوح يغطي المشهد برمته، وذلك لتكون الصورة قابلة للقراءة والفحص والمواقف المعلنة قابلة للتحليل والنقد.

بدأت «حماس» بالإعلان عن تواصلها مع «السلطة الفلسطينية» بعدما قادت الانقسام الفلسطيني، وبدأت تصريحات قياداتها صريحة في انفتاحها على أي مبادرات أو أفكارٍ لإنهاء الحرب في غزة ولحل القضية الفلسطينية بعيداً عن آيديولوجيات لا تمتّ للواقع بصلةٍ، وإن تغذت عليها أجيالٌ، والرجوع للحق فضيلةٌ ولا تثريب على صاحبه بشرط وضع النقاط على الحروف والاعتراف بالخطأ وضمان عدم التكرار، فأرواح شعبٍ بأسره ومستقبله ليست حقلاً للتجارب، ولا مجالاً للمزايدات تحت أي شعارٍ وضمن أي سياقٍ.

دولياً، بدأ الموقف الأميركي في خلق مساحةٍ بينه وبين الموقف الإسرائيلي، وليس التخلي عن إسرائيل، وذلك أمرٌ متوقعٌ بناء على طبيعة الخلافات بين الطرفين، إدارة بايدن الأوبامية اليسارية الليبرالية وحكومة نتنياهو اليمينية الإسرائيلية، وهو خلافٌ معلنٌ وممتدٌ لسنواتٍ، ثم إن حكومة نتنياهو قد أنجزت كثيراً مما وعدت به بوحشيةٍ صدمت الشعور الإنساني، وقبل هذا وذاك فأميركا علمت جيداً أن الموقف السعودي والعربي والإسلامي صارمٌ تجاه ما يجري، وأن الحرب يجب أن تتوقف في غزة.

سببٌ آخر لتغير الموقف الأميركي قليلاً عما كان عليه بداية الحرب، وهو أن استمرار الحرب وتوسعها سيضطران أميركا لاتخاذ مواقف صارمة من ملفات كانت تتجنب الحسم فيها لحسابات سياسية، ومنها الملف الإيراني وتوابعه، ومنها الموقف من «ميليشيا الحوثي» في اليمن، ومن يقرأ التصريحات الأميركية أو الغربية عموماً لا يخفى عليه اللغة التي تبدو مفاجِئةً نوعاً ما أو تريد أن تبدو كذلك، واللغة التي لا تريد اتخاذ موقفٍ حقيقيٍ في حدث ساخنٍ له امتداداته وتأثيراته الإقليمية والدولية.

حفلاتٌ غنائيةٌ قائمةٌ ومهرجاناتٌ فنيةٌ ودرامية تعقد، ولكنها مجرمةٌ حين تكون في دول الخليج وطبيعية حين تكون في غيرها من البلدان العربية، وهذا فضلاً عن كونه تناقضاً هو نقصٌ في الأخلاق، والتعامل مع الفنان المصري المعروف «بيومي فؤاد» هو المثال الصارخ لهذا التناقض.

أخيراً، فرفع الوعي بنشر الحقائق الموضوعية مهمةٌ جلّى لا ينهض بها إلا القلة من المؤسسات والأفراد.