كلما شهدت الأراضي الفلسطينية حدثاً أو اجتياحاً ينفذه الجيش الإسرائيلي، يحضر بقوة قول الشاعر الفلسطيني محمود درويش: يقيس الجنود بين الوجود وبين العدم بمنظار دبابة/ نعيش المسافة ما بين أجسادنا والقذائف بالحاسة السادسة.
رغم الانقسامات الداخلية والحزبية الفلسطينية هبّ الشعب الفلسطيني بأسره دفعة واحدة ضد عدوّ لا رحمة لديه ولا شفقة ولا حتى إنسانية، في وحدة وطنية متوحدين في جهاد ونضال مرير في حرب ضروس غير متوازنة القوى بدأت بحجارة وأطفال حجارة في وجه جيش متفوّق وسلاح فائق التطور والقوة دفاعاً عن وطن وأرض حضنت المقدسات الدينية والمسجد الأقصى الذي، كما تقول المصادر التاريخية إنه سُمّي «الأقصى» لبعده عن المسجد الحرام، وقبة الصخرة، والمسجد الإبراهيمي في مدينة الخليل الذي سُمّي «الإبراهيمي» لضمّه قبر النبي إبراهيم عليه السلام. كما أن في فلسطين قصر الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك الذي يتميز بالإبداعات الهندسية من زينة بالفسيفساء والزخارف والأعمدة الأثرية، أما أشهر المعالم في فلسطين، كنيسة القيامة في مدينة القدس التي يعتقد معظم المسيحيين أنها إحدى أهم الكنائس في العالم، لأنها تحتوي على قبر سيدنا عيسى عليه السلام وأن المسيح قد صُلب فوقها. أضف إلى ذلك الفنون والأزياء والطعام التي يتميز بها الفلسطينيون.
فلسطين، هذه الجمهورية العربية الديمقراطية الشرق أوسطية التي تُعدّ إحدى الدول الخمس، وتقع في الجزء الآسيوي من العالم العربي، هي مهد الحضارات والديانات الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلامية وموطن مقدساتها، قد شكّلت على الصعيدين الاستراتيجي والحضاري مطمعاً للغزاة والمستعمرين بسبب موقعها الجغرافي الذي يربط بين أوروبا وأفريقيا وآسيا، لذلك اعتبر الاستعمار الأوروبي، خصوصاً بريطانيا، أن الحفاظ على المصالح الاستعمارية في المنطقة العربية لا يتمّ إلا من خلال السيطرة على فلسطين، ما جعله يصرّ على تأسيس وطن قومي لليهود فيها، وهو الموقع الذي كان منذ القدم، ذا أهمية كبرى، حيث كان ممراً للقوافل التجارية القادمة من آسيا والهند وشبه الجزيرة العربية التي تصل إلى فلسطين على البحر الأبيض المتوسط ومنها إلى أوروبا. هذا وقد شهدت فلسطين في أوقات السلم تجارة واقتصاداً مزدهراً نظراً لموقعها الجغرافي الرابط بين آسيا وأفريقيا عبر مصر. ولا تزال حيفا ويافا وغزة تلعب دوراً مهماً في التجارة، خصوصاً ميناء حيفا الذي يُصدَّر من خلاله النفط العراقي إلى أوروبا. وهكذا جعل الموقع الجغرافي من فلسطين همزة وصل برية بين قارتي آسيا وأفريقيا، وبين البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر.
أما على الصعيد التاريخي فقد عُرفت فلسطين بأرض كنعان نسبة للكنعانيين الذين كانوا أشهر من سكنها. وتذكر بعض الروايات أن اسم فلسطين مشتق من كلمة «فلستيا» نسبة إلى قوات «فلستو» التابعة للملك الآشوري أديزاري الثالث، أما في العصر الروماني أصبح اسم فلسطين يُطلق على كل الأراضي المقدسة خصوصاً في الكنائس المسيحية. وتشير الاكتشافات الأثرية في الشام والعراق إلى أن الشعوب السامية كانت من أقدم الشعوب التي عاشت على أرض فلسطين، كما تشير إلى أن سكان فلسطين كانوا عرباً هاجروا من جزيرة العرب إثر الجفاف الذي حلّ بها، فاستقروا في وطنهم الجديد «كنعان» ما يزيد على ألفي سنة قبل ظهور النبي موسى عليه السلام.
يعود تاريخ الهجرة الكنعانية من الجزيرة العربية إلى منتصف الألف الثالث قبل الميلاد، ويشير باحثون آخرون إلى وجود الكنعانيين إلى ما قبل سبعة آلاف سنة قبل الميلاد تقريباً، وذلك من خلال تتبع الآثار في المدن القديمة وأقدمها مدينة أريحا التي يُقال إنها أقدم مدينة في العالم، وقد تعرّف سكان المنطقة في أواخر الألف الرابع قبل الميلاد على النحاس فأخذوا يستخدمونه في بعض الصناعات البدائية، لذا أطلق المؤرخون على تلك الفترة العصر الحجري النحاسي.
وهكذا فإن أولى الهجرات البشرية المهمة إلى فلسطين كانت للكنعانيين وكانت في بداية الألف الثالث قبل الميلاد، وانتشرت اللغات الكنعانية والآرامية – لغة المسيح عليه السلام- والعربية، واستمرت فلسطين تُسمى «أرض كنعان» حتى عام 1200 ق.م إلى أن غزتها القبائل الكريتية. وفي الألف الثالث ق.م هاجر إبراهيم عليه السلام من بلدة أور في العراق إلى فلسطين وهناك أنجب إسحق والد يعقوب الذي يُسمى كذلك «إسرائيل» وإليه ينتسب الإسرائيليون. وإذا عُدنا بالتاريخ إلى الوراء، إلى ما بعد نبوخذ نصر الكلداني عام 597 ق.م، نجد أن فلسطين بعد ذلك عادت كنعانية عربية تابعة للعراق وتستقبل الهجرات العربية.
واختفت دولة اليهود في فلسطين بسبب غزوات الآشوريين والكلدانيين، حيث تُعد تلك الفترة من أهم فترات التاريخ الفلسطيني يستند إليها اليهود في ادعائهم بأحقيّتهم في العودة إلى فلسطين «أرض الميعاد».
وفي العهد العثماني سُمح لليهود بأن يقيموا في فلسطين بصفتهم مواطنين بمرسوم من الباب العالي، لأن الدولة العثمانية كانت ترفض هجرة اليهود الاستيطانية إلى أرض فلسطين، ورغم ذلك، فإن الهجرة الثانية لليهود والقوى إلى فلسطين تنامت بين عامي 1904 و1914، الصهيونية في فلسطين، كما بدأت تلك الهجرات في نهاية القرن التاسع عشر بين يهود أوروبا الذين انتموا للصهيونية المشتقة لفظاً من كلمة «صهيون» العبرية، وهي اسم لجبل غربي القدس يحج إليه اليهود لاعتقادهم أن الملك داود دُفن عنده. وبعد عام 1870 ظهرت الفكرة الصهيونية في إنشاء الوطن القومي لليهود في فلسطين، ونجح في ذلك بعد الاتفاق الشهير بين الصهاينة والاستعمار الأوروبي خصوصاً الإنجليز والفرنسيين عبر «وعد بلفور» الموقع في 2 نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 1917 في ظل الحرب العالمية وتفكك الدولة العثمانية.
أما ما يجري على أرض فلسطين يفوق الخيال خصوصاً بالنسبة للمستشفيات والمرضى العزّل، حمى الله غزة وأهل فلسطين جميعاً.
*باحثة لبنانية