د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

‏راية الاستسلام البيضاء!

استمع إلى المقالة

ألقت قوات التحالف الدولي منشورات ورقية على ثكنات الجيش العراقي الذي كان يحتل الكويت عام 1990، فيها رسومات كرتونية تشرح لهم بالصور والنصوص العربية كيف يمكن أن يستسلموا وينجوا «حقناً للدماء». كانت الكثير منها تصف كيف يرفع الجندي راية الاستسلام البيضاء. وقد رأينا ذلك عبر الفيديوهات وهم يخرجون بأعداد هائلة من تحت الخنادق والثكنات. وقالت منشورات أخرى أُلقيت إن «هذا الموقع سيتعرض للقصف قريباً... اتركوا معداتكم، واهربوا»، وبدت صورة دبابة مقصوفة، وغيرها من عبارات.

هذه الراية البيضاء حقنت الكثير من دماء البشرية، وقد لمَّحت إليها اتفاقات لاهاي وجنيف؛ فقد رفع الألمان الرايات البيضاء مستسلمين بعد حصارهم في بريسلاو عام 1945، ورفعها الجنرال البريطاني آرثر برسيفال عام 1942 ليعلن استسلامه خلال معركة سنغافورة. ورفعها ضمنياً إمبراطور اليابان، بعد إلقاء الأميركيين القنبلة النووية على بلاده. وقال سفير المملكة العربية السعودية لدى اليابان د. عبد العزيز تركستاني في مقابلة متلفزة، قبل أيام، في برنامج مخيال: «لو علمت اليابان أن أميركا لا تملك سوى قنبلتين لما استسلمت»!

هذه العبارة تنم عن أن المرء بفطرته لن يستسلم في أرض المعركة العسكرية أو التجارية إذا ما توافرت لديه أنباء عن خصمه.

ويروى أن راية الاستسلام البيضاء كانت ترفع منذ عصر الرومان، وامتدت ممارستها حتى القرون الوسطى، حيث قيل إن رفعها آنذاك يرمز إلى تحديد الأفراد المعفيين من المشاركة في الحروب، لأعذار شتى. غير أن معضلة رفع راية الاستسلام تكمن في أنها تقوي شوكة الخصم إذا لم يكن خلفها خطة استراتيجية محكمة؛ فاليابان مثلاً قررت بعد الاستسلام أن تسخّر كل قدراتها الصناعية الهائلة لتذهل العالم، بجودتها وإتقانها، وودعت مغامراتها الحربية التي لم يسلم منها دول الشرق الأقصى، ووظفت شراسة أفرادها (آنذاك) في التنافس التجاري الضاري؛ حيث وصف السفير السعودي دقة صناعة السيوف فيها وعدم تورع بعض الصناع عن قطع رؤوس عشرات اليابانيين الأبرياء ليختبروا جودة سيوفهم!

في عالم الأعمال (البزنس) قد يلتهم الخصم ما تبقى من حصتك السوقية إذا ما تسرعت في رفع راية الاستسلام. وفي المعارك قد يفرض الأقوى شروطه التعسفية إذا أخطأنا توقيت الاستسلام.

واقع الحروب والتجارة والعلوم يؤكد أن التاريخ لا يُبقي أحداً منتصراً إلى الأبد. فمن سنن الحياة التقدم، والتأخر، والانهزام. لكن أسوأ هزيمة حينما تجر أمتك إلى التهلكة من دون أن تملك أدنى مقومات النجاة.