فؤاد مطر
أحد كتّاب الرأي والتحليل السياسي في «الشرق الأوسط» ومجلة «المجلة» منذ العام 1990 وقبلها عمل صحافياً وكاتباً في «النهار» اللبنانية و«الأهرام». نشر مجلة «التضامن» في لندن وله 34 مؤلفاً حول مصر والسودان والعراق والسعودية من بينها عملان موسوعيان توثيقيان هما «لبنان اللعبة واللاعبون والمتلاعبون» و«موسوعة حرب الخليج». وثَّق سيرته الذاتية في كتاب «هذا نصيبي من الدنيا». وكتب السيرة الذاتية للرئيس صدَّام حسين والدكتور جورج حبش.
TT

خير فرصة ضيّعوها

استمع إلى المقالة

في سياق أسلوب التباكي الإسرائيلي الذي يستهدف إبقاء القلوب الأميركية والغربية والروسية ممتلئة بنِسَب متفاوتة، تعاطفاً مع حالة الاحتلال الفريدة من نوعها في القارات الخمس، يمسك بنيامين نتنياهو أحدث رؤساء الحكومات الإسرائيلية المعتدين على الحق الفلسطيني، ومنه على التعاطف العربي- الإسلامي مع شعب يعيش أسوأ حالات الاحتلال وأكثرها غرابة منذ ثلاثة أرباع قرن: «بوستر» من خطوط بداخله مساحة صغيرة ملونة يرفقها عند التخاطب بعبارة إن هذه المساحة الصغيرة جداً هي دولة إسرائيل بين مساحات مترامية الأطراف من دول عربية معادية لها.

ونحن عندما نقول أسوأ حالات الاحتلال وأكثرها غرابة، فلأن المحتل جزء من شراكة أشبه بشركة ذات مجلس إدارة، وليس وحده الإسرائيلي الموهوب وطن غيره من جانب الواهبة تلك الإمبراطورية التي كانت لا تغيب الشمس عنها، وفقدت الشأن الإمبراطوري واقتربت من الظلمة، بمعنى أنها باتت في نظر الولايات المتحدة مجرد دولة أوروبية تدور في فلك سياستها، بما في ذلك اتخاذ القرارات التي تفتقد إلى الروية، وأنها في نظر روسيا والصين دولة برسم الاستهداف، إذا تمادت في ربط مواقفها أحياناً بموقف الولايات من الأزمات الكبرى. ولنا على سبيل المثال لا الحصر، كيف أن ديمتري ميدفيديف، الحجر الأكثر صلابة في بنيان قرارات كرملين الرئيس بوتين، هدد بريطانيا غير مرة بعمليات حربية إذا هي تمادت في انخراطها في قرار المواجهة الأميركية الأطلسية عموماً ضد الموقف الروسي في عراكه الحربي المتواصل مع أوكرانيا.

الآن، وبعدما لامس الفأس الفلسطيني رأس التعاظم الإسرائيلي، وأنتج هذا التلامس حالات متوحشة من الرد على النار التي أوقدتها حركة «حماس» وأثمرت جمراً إسرائيلياً أظهرت التطورات عُسر إطفائه، يتأمل المرء في ضحالة موقف دولي، من حالة كان من شأن عدم الاستهانة بها توظيفها بغرض قطْع الطريق على ما حدث، وطي صفحات ملأى بالفواجع، والمباشرة بكتابة صفحة مشرقة في تاريخ المنطقة. وما نعنيه بالحالة هي أن ما بعد إطلاق «مبادرة السلام العربية» بات غير ما قبل الإطلاق؛ بل يجوز القول إنه بات عكس ما كان سائداً. فقد اعتدلت مواقف اتخذتها قيادات عربية بفعل الظروف من جهة والتطلعات المستقبلية من جهة أُخرى. وسنة تلو سنة هنالك عالم عربي- إسلامي- أميركي- صيني- روسي- أوروبي يُحسب له حساب. وما نقصده بذلك أن المصالح بين دول هذا العالم بات بمقدورها أن تضع على بساط البحث بغرض إعادة النظر في مواقف متحجرة، إمكانية معالجة المعضلة الفلسطينية- الإسرائيلية، بخطة يتقبلها أطراف الصراع الذي طال إمعاناً في زعزعة الاستقرار.

والذي يجعل مثل هذا الأمر ممكناً العلاقة المتجذرة من جانب الولايات المتحدة والدول الأوروبية مع الدول العربية ذات الفاعلية في التأثير، من أجل تذليل المصاعب. يصبح ممكناً، وتحديداً بالنسبة إلى الحل المستعصي العربي- الإسرائيلي، ما دامت المملكة العربية السعودية ومصر ودول الخليج والأردن والمغرب والجزائر وتونس، إضافة إلى دول إسلامية منخرطة في نواحٍ من ذلك الصراع مثل تركيا وباكستان وإندونيسيا، في أحسن العلاقة مع الجناح الغربي من الكوكب الدولي، أي الولايات المتحدة ودول أوروبا، وبالقدْر نفسه إلى حد ما مع الثنائي الصيني- الروسي الفاعل والمتفهم، وإن اختلفت من حيث طبيعة العلاقة ومقتضياتها، علماً بأنها وفْق الاتفاقيات الحديثة الإبرام ذات آفاق استراتيجية مثلثة الضرورات لمصالح الجميع: ثلث أفق سياسي، وثلث أفق عسكري، وثلث أفق تجاري واقتصادي.

في مثل هذه الحال، إن مبادرة للتسوية تصاغ وفق مضمون مبادرة السلام العربية، أو تعتمد منطلقاتها، يتم طرحها من على منبر الأمم المتحدة بهدف التفاف الجمع الدولي بنسبة عالية حولها، لن تصطدم باعتراضات عربية فاعلة. باعتبار أن دول الجناح الأميركي- الأوروبي تمون على الطيف العربي المسلم في حال كانت له تحفظات، وتمون بالنسبة نفسها دول الجناح الشرقي على رموز قادة الحقبة المستجدة في العالم العربي. وفي حال التقى الجمعان، فإن إسرائيل يمكنها التحفظ، إنما ليس الاعتراض.

لسوء حظ الاستقرار الثابت الذي تسمع به الدول المعنية بالصراع العربي- الإسرائيلي ولا تراه، وعلى نحو حالة الشاعر العراقي الراحل الجواهري الذي قال: «أسمع عن بغداد ولا أراها» أن دول الجناح الأوروبي المستمتعة بأسطوانة صيغة الدولتيْن، كلاماً لا تنفيذاً، تتعمد أن يبقى الصراع على ما هو عليه منذ افتعال إهداء فلسطين وطناً ليهود الشتات، وتحويل أصحاب الوطن إلى جمعيْن: واحد تحت الاحتلال وتحت القصف وفي قبضة سجانيه، وآخر موزع على بلاد الله الواسعة، يحلم باستعادة الوطن كاملاً، أو يرتضي الوطن الذي رسمت معالمه مبادرة السلام العربية، وليس كما رسمته خريطة نتنياهو الذي يحاول رفْعها كأنها لوحة تزيِّن مكاتب ودواوين إسرائيل، إذابة لغضب أي معترض على «سفاري» تدمير البيوت والأبراج على ساكنيها أهل غزة، كما رحلة الصيادين في الصحارى والأدغال، وعلى محرقته الغزاوية المتواصلة توأم المحرقة الهتلرية، وغير عابئ بمَن يدين سلوكه وأسلوب قيادته.

غزة التي افتتح يوم الاثنين 24 يناير (كانون الثاني) 2022 وزير السياحة والآثار التابع ﻟ«حكومة حماس» في موقع كنسي في مدينة جباليا شمال قطاع غزة بعد انتهاء أعمال الترميم فيها، أرضية فسيفسائية تُعد نادرة ومن الأكبر بين كنائس الشرق الأوسط. غزة التي سيكتب التاريخ ذات عصر ليس بالبعيد، أن بعض بني قومها استشهدوها، وأن العم سام وبني المجتمع الغربي الظالم تلذذوا بشواء لحوم أطفال ونساء وعواجز قضوا بفعل صواريخ وجَّه بإطلاقها طيف غاب عن باله أنه يؤسس من هؤلاء الأطفال الذين قضى آباؤهم وأمهاتهم وجدودهم أمام أعينهم أجيالاً من المقاتلين، سيبدو ثأرهم الآتي هو الأعظم قياساً بالثأر الراهن.

والله الناصر ومسدد الخطى. وكل ذلك لأن خير الفرص لإيجاد تسوية متوازنة للصراع العربي- الإسرائيلي ضيعوها، أو على طريق التضييع. فرصة تعطي للفلسطيني نصف حقه الذي هو دولته المستقلة وعاصمتها القدس، تعويضاً عن الدولة التي هي من البحر إلى النهر، والتي رغم وجاهة هذا المطلب ارتأت مبادرة السلام العربية الأخذ بما يمكن، عوض الاسترداد بالقوة غير المتيسر، ما أُخذ بالقوة الإسرائيلية الدولية المخطط لها.

هدى الله بنيامين التائه إلى سواء السبيل، وأزال الغشاوة عن بصائر وعقول أهل القرار الذين هم ساهون عن جوهر الحل الضميري للصراع العربي- الإسرائيلي الذي تجسده مبادرة السلام العربية.