ميرزا الخويلدي
كاتب و صحفي سعودي
TT

دماء لعجلة التاريخ!

استمع إلى المقالة

تبدو حروب الشرق كنزهة في حديقة غنّاء إذا ما قورنت بصورة أوروبا على مدى عشرة قرون. قامت أوروبا ونشأت وتشكلّت على تاريخ فظيع من الحروب والصراعات الدامية، وعلى سجل شائك من الأحقاد والكراهيات القاتلة، وعلى الرغم من أنها عبرت ذلك الجحيم، فإن أثره ما زال عالقاً في الذاكرة وربما في السلوك أيضاً.

ما تعلمته أوروبا بعد تلك الحروب، وخاصة الحربين العالميتين، أنها بحاجة إلى عقل بارد يدير معاركها بحكمة وعقلانية، يقودها لحافة الخلاص وليس يغوص بها في المستنقعات. بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، وما شهدته من فظائع، قال جورج كليمنصو، رئيس وزراء فرنسا الذي قاد بلاده إلى النصر: «إن الحرب أكثر أهمية من أن تترك للجنرالات».

عمل الألماني «إيريك دورتشميد» مراسلاً حربياً، وهو أيضاً سينمائي ومؤلف وبروفسور في التاريخ العسكري، قالت عنه «نيويورك تايمز» إنه «شاهد حروباً أكثر من أي جنرال على قيد الحياة»، وضع خبرته في كتاب شيّق حمل عنوان: «دور الصدفة والغباء في تغيير مجرى التاريخ: العامل الحاسم»، يقول: «التاريخ هو الشاهد كمّ من جيوش جرّارة هُزمت بسبب غباء وعدم كفاءة قادتها. فالحرب ليست مجرد مارشات ومجد عسكري، إنها رحى الموت» (ص11).

أدمنت أوروبا الحروب حتى مزقتها الأحقاد والكراهية في العصور الوسطى، أجيال تلو الأجيال ولدت وشاخت وهلكت في حروب مقدسة وإقطاعية. حرب المائة عام في القرنين الرابع والخامس عشر، كانت أطول تلك الحروب بين الفرنسيين والبريطانيين، تمّ «تلبيس» تلك الحرب الطويلة أزياء مقدسة، لكنها اندلعت بسبب «نزوة» أشعلت الكراهية أكثر من 300 عام بين الشعوب البيضاء.

تلتها حرب الثلاثين عاماً في القرن السابع عشر وهي في جوهرها صراع بين الكاثوليك والبروتستانت، وعلى أثرها اندلعت ما يعرف بالحروب الدينية الطائفية التي أحرقت الأخضر واليابس، وكانت ألمانيا مسرح هذه الحرب الأول، ثمّ امتدت لتحرق القارة بأكملها، واستمرت حتى بداية القرن الثامن عشر.

في كتاب «قصة الحضارة» نقرأ: «هبطت حرب الثلاثين بسكان ألمانيا من عشرين مليوناً إلى ثلاثة عشر (مليوناً) ونصف مليون، وبعد عام أفاقت التربة التي روتها دماء البشر، ولكنها ظلت تنتظر مجيء الرجال. وكان هناك وفرة في النساء وندرة في الرجال. وعالج الأمراء الظافرون هذه الأزمة البيولوجية بالعودة إلى تعدد الزوجات كما ورد في العهد القديم».

وحين نصل إلى القرن التاسع عشر يحدثنا الروائي الإيطالي إمبرتو إيكو في رائعته «الوردة»، عن أرض جديدة للحروب مسرحها إيطاليا وفرنسا، حين انفجر منسوب الكراهية بين الهويات: «إن معنى الهوية يقوم على الكره» كما تقول الرواية، وأصبحت باريس مسرحاً للمجازر، «حيث صار الناس يأكلون الفئران، وطعنات بالخنجر».

من ذلك المخزون المشحون بالصراعات الدامية سار الفاتحون عبر البحار لاستعمار العالم الجديد، أميركا وأستراليا ونيوزلندا، (الولايات المتحدة أعلنت استقلالها بعد حروب الاستقلال الدامية مع بريطانيا في عام 1776)، وشكل المهاجرون البيض حضارتهم في تلك البلدان على أنقاض السكان الأصليين، وعلى استعباد شعوب القارة السوداء.

وفي ظل صراعات القرون الوسطى، تفشى التعصب الديني وقامت محاكم التفتيش والحروب الصليبية، وجرت عمليات تطهير ديني في الأندلس، يصفها المؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون، في كتابه «حضارة العرب» بقوله: «يستحيل علينا أن نقرأ دون أن ترتعد فرائصنا من قصص التعذيب والاضطهاد التي قام بها المسيحيون المنتصرون على المسلمين المنهزمين (...) لقد تم قتل أو طرد ثلاثة ملايين عربي».

هذا في عصر الظلمات، لكن عصر التنوير لم يسلم من الفظائع، في ظله نشأت النازية والفاشية في أوروبا، واندلعت الحربان العالميتان، وبدأ عصر الاستعمار، ونشأت إسرائيل.

تحت هذا الإرث التاريخي، تتم صناعة المفاهيم والقيم، ويجري تصنيف الخير والشرّ، والحق والباطل، وتمزيق العالم إلى فسطاطين، وبسبب هذا الإرث ما زال العالم معتلاً في مسيرته نحو الرشد والعقلانية، لكن الحقائق وحدها لا تصنع التاريخ. يقول غوستاف لوبون: «ليست بالحقائق وحدها يعيش الناس وتجري حركة التاريخ»، ثمّة - للأسف - مؤثرات أقوى، عبّر عنها الزعيم الفاشي موسوليني حين قال قبل إعدامه سنة 1945: «الدماء وحدها هي التي تحرك عجلات التاريخ».