د. ياسر عبد العزيز
TT

... ولا عزاء لكاتب المقال

لطالما كانت النصيحة الأبدية لكل من يريد أن يعمل في صنعة الكتابة هي القراءة؛ وهو الأمر الذي حظي بتوافق نادر بين الفلاسفة والعلماء والكُتّاب على مرّ الزمان.

ورغم أن تلك النصيحة لا تقود المرء إلى أن يصبح كاتباً بالضرورة؛ إذ يستلزم ذلك قدراً من الخبرة والحس الإنساني، اللذين يعززهما امتلاك أسلوب خاص، فإن القراءة ظلت هي الحجر الأساس في بناء الكاتب، وتحديد مستوى كفاءته وتأثيره.

بسبب هذه المكانة الكبيرة والجوهرية للقراءة في إكساب الكاتب سمته وتعريفه؛ فإن أدوات الذكاء الاصطناعي الناشئة باقتدار، والمتطورة بنهم، التي باتت «بطل العالم» في القراءة، بالنظر إلى توافرها على أكبر قدرة على التصفّح عرفها التاريخ، سيكون بمقدورها أن تلج عالم الكتابة بيسر، لتتمركز فيه سريعاً، قبل أن تستأثر بمعظمه.

وفي صناعة الصحافة، ما زال موقع كاتب المقال يحظى بمكانة مميزة ومُقدرة، وهو أمر لن يكون مستغرباً، بالنظر إلى ما سبقت الإشارة إليه من مقومات وإطار كفاءات مُعين يُفترض توافره في أصحاب تلك المهنة، وسيزيد على ذلك ما يتعلق بالقدرة على إقناع منافذ النشر والتوزيع بوجاهة المكتوب وجدواه، وهو أمر سيسهم الجمهور والمؤسسات في بلورته وتكريسه.

لكن صنعة الكتابة ووظيفة الكاتب، كما عهدناهما على مدى عقود خلت، ستمران بأزمة وجودية، وستواجهان تهديداً مصيرياً؛ إذ تتراجع ذائقة التلقي، في ظل فورة المعلومات ووفرة البدائل وآليات التصفح المُستحدثة من جانب، وسيدخل إلى ساحة المنافسة وافد جديد، لا سقف لطموحه ولا حد لتطوره الذاتي، من جانب آخر.

وبعدما بات الذكاء الاصطناعي يمثل خطراً واضحاً على مستقبل الصحافي، والمُترجم، والمُدقق اللغوي، ومذيع النشرة، ومُقدم البرامج، ومُيسر الحوار، فإنه اليوم يطرح مخاطر لا تقل إلحاحاً على وظيفة كاتب المقال.

وقبل يومين، حاولت أن أؤدي واجبي المعهود حيال هذا المقال، الذي تقرأه الآن، وكما هي العادة؛ فقد ذهبت إلى محرك البحث «غوغل»، وكتبت عبارة «الذكاء الاصطناعي وكتابة المقالات»، كما تقرأها الآن بالضبط، ولم يكن مُستغرباً أن أجد آلاف الروابط التي تتحدّث في الموضوع. لكن ما لفت الانتباه ودق ناقوس الخطر في آن، أن معظم المقترحات، التي تصدرت قائمة الإجابة، عرضت على الفور أدوات ذكاء اصطناعي جاهزة وعلى أهبة الاستعداد لتنفيذ المهمة؛ أي كتابة المقال.

ستضحى تلك أهم ميزة لأدوات الذكاء الاصطناعي، وستُمسي أيضاً منبع الخطر؛ إذ لا وقت لدى تلك الأدوات للتفكير فيما يتعلق بالمهمة، أو استعراض مسارها، أو سبر غورها، وكل ما ستفعله أنها ستنجزها على الفور.

طلبت من «سمودن» أن يكتب مقالاً عن «انقلاب النيجر»، فأجاب بأن هذا الموضوع «حساس»، وأنه لن يكون بوسعه إنجازه، لكن «تشات جي بي تي» لم يتردد في التجاوب، ومنحني مقالاً يمكن وصفه بأنه «عادي ومتماسك وبلا أخطاء واضحة، ويمكن نشره في وسيلة إعلام محلية».

عدت إلى «سمودن» مرة أخرى، وطلبت إليه كتابة مقال عن «تأثير وسائل التواصل الاجتماعي في الشباب»، وكانت إجابته حاضرة في ثوانٍ، حيث حصلت على مقال لا يختلف كثيراً في جودته واكتماله عما يكتبه البعض في وسائل الإعلام المحلية في عديد البلدان. أما «تشات جي بي تي»، فقد أعد مقالاً، بناء على طلبي، استهدف إلقاء الضوء على الانتخابات الرئاسية المصرية المُنتظر إجراؤها في الشهور المقبلة، وهو المقال الذي حوى خطأ معلوماتياً فادحاً، بينما اتسقت بقية سطوره في معالجة يمكن وصفها بأنها موضوعية ومنضبطة وغنية بالإفادات.

في إحدى الصفحات الترويجية التي تُسّوق أدوات الذكاء الاصطناعي لكتابة المقالات، قرأت هذه العبارة في صدارة الصفحة: «هل أنت كاتب تتطلع إلى توفير الوقت في البحث والصياغة؟ هل أنت محرّر تبحث عن طريقة لإنشاء محتوى مكتوب بسهولة؟ هل أنت ناشر ترغب في إضافة محتوى جديد إلى موقع الويب الخاص بك دون الحاجة إلى توظيف كُتّاب جدد؟ إذا كان أي من هؤلاء يصف حالتك، فإن منشور المدوّنة هذا يناسبك. سنغطي أفضل مواقع الكتابة بالذكاء الاصطناعي، حتى تتمكن من البدء في إنشاء محتوى رائع اليوم».

فإذا كنت أياً من هؤلاء الذين تستهدفهم المدوّنة، ومعها أدوات الذكاء الاصطناعي التي تتطور باطراد، فلا شك أن طلبك سيكون موجوداً، وستحصل عليه في ثوان. ورغم أن درجة الكفاءة التي ينطوي عليها ستكون محل شك اليوم، وبعض المعلومات الواردة فيه ستكون في حاجة إلى تدقيق وتعديل، فإن المهمة ستُنجز، والتعلم سيستمر، والتحسن سيتواصل، والجمهور، على الأرجح، سيرضى، والمؤسسات ستوفر الوقت والجهد والمال. ولا عزاء لكاتب المقال.