د. ياسر عبد العزيز
TT

حين يتحدث الوزير إلى الإعلام

استمع إلى المقالة

في شهر مايو (أيار) 2021، اندلعت أزمة دبلوماسية بين لبنان وعدد من البلدان العربية، بعدما «تورط» وزير الخارجية اللبناني آنذاك، شربل وهبة، في الإدلاء بتصريحات تلفزيونية، عُدت «مُسيئة وغير مسؤولة».

فقد اتهم وهبة عدداً من الدول العربية بتمويل التنظيمات الإرهابية، من دون أن يقدّم أي قرينة أو دليل على ما ذهب إليه، وهو الأمر الذي تسبّب في أزمة في العلاقات البينية بين هذه الدول وبين الدولة اللبنانية آنذاك، ويبدو أنه لم يكن هناك حل مُرض لها سوى بذهاب الوزير إلى رئيس الجمهورية، وطلب إعفائه من منصبه.

تم إعفاء الوزير من منصبه على أي حال، وبدا أيضاً أن الأزمة احتويت مرحلياً بشكل أو بآخر، لكنها فتحت الباب للحديث عن المهمة الاتصالية للمسؤول السياسي، وما إذا كانت تلك المهمة «فرض عين» أم «فرض كفاية»، في ظل تباين الرؤى إزاء الأدوار الاتصالية للقادة، ومقومات وفائهم بها.

فالبعض يرى أن المهمة الاتصالية للمسؤول الحكومي، والوزير في أرفع مراتبها بطبيعة الحال، ليست فرضاً من الضروري القيام به للمسؤولين كافة. ويتذرع هؤلاء بأنه من الممكن أن تُناط المهام الاتصالية بمتحدث رسمي، أو عدد محدود من القادة، فيما يتحدث الباقون باعتبارهم «يمثلون أنفسهم» أو «يعبرون بتلقائية لا يجب أن تقودهم إلى المحاسبة، أو تلقي بالتبعات على الحكومات والنظم السياسية، التي ينتمون إليها ويمثلونها».

وفي المقابل يرى بعض الخبراء والمعلقين أن تلك المهمة «فرض عين» على كل مسؤول سياسي، وأن التكوين الاتصالي للمسؤول أو القائد السياسي مسألة حيوية، لأنه لن يستطيع أن يمثل حكومته، وأن يخاطب العالم والجمهور المحلي، من دون امتلاك قدرات اتصالية رفيعة تتناسب مع عظم المسؤولية، وخطورة المهمة، التي يحملها على عاتقه.

وكان هيوبرت همفري، نائب الرئيس الأميركي في العقد السابع من القرن الفائت، أحد الذين لفتوا الانتباه إلى خطورة المهمة الاتصالية للمسؤول السياسي، حين قال: «من المجازفة دائماً التحدث إلى وسائل الإعلام والصحافيين... فهم على الأرجح، سينشرون كل ما تقوله لهم».

ما يقوله همفري، في هذا الصدد، ربما يعكس درجة مفرطة من الحذر والتوجس، أو مقاربة ساخرة للقصة المثيرة المتجددة عن علاقة القادة السياسيين بالإعلام، لكنه ينطوي أيضاً على حكمة عميقة؛ إذ تبدو حياة المسؤول السياسي في ظل بيئتنا الاتصالية الراهنة «حياة على الهواء»، وسيكون كل ما يصدر عنه خلالها، قولاً أو إيماءً، محل فحص ودرس، بعدما سيتم نقله عبر الوسائط المتعددة إلى أصقاع الأرض كلها.

لا يبدو أن الجميع تعلم من هذا الدرس؛ فما زال القادة السياسيون يتورطون في الأحاديث الإعلامية، ويدلون بالتصريحات غير المدروسة؛ فيفاقمون أزمات تعيشها حكوماتهم، أو يبدعون في اجتراح أزمات جديدة.

شيء من هذا حدث مجدداً، حين تورط وزير لبناني آخر هو أمين سلام، وزير الاقتصاد والتجارة، في تصريحين مثيرين للجدل والأزمات، خلال الشهر الحالي.

ففي مطلع الشهر، قال الوزير إن الكويت يمكن أن تساعد لبنان في إعادة بناء صوامع القمح بـ«شخطة قلم»، وهو التصريح الذي أثار ضجةً واستنكاراً في الكويت، وترتّبت عليه احتجاجات وإجراءات دبلوماسية، اكتفى سلام في مواجهتها بالقول إنه «لم يقصد إساءة».

ولم يمر وقت طويل قبل أن يتورط الوزير نفسه في تصريح آخر فجّر جدلاً جديداً وأثار استياء بدوره، وتلك المرة كانت الواقعة مع مصر، حين قال إن هذا البلد يستهلك في ثلاثة أسابيع ما يستهلكه لبنان في عام كامل من القمح، مقترحاً الحصول على بعض القمح من المخزون المصري لمواجهة الاحتياجات اللبنانية.

لم يكن الوزير موفقاً في كلا التصريحين بطبيعة الحال، وهما تصريحان يعكسان عدم إدراك لطبيعة عملية اتخاذ القرار في الكويت من جانب، ولطبيعة مخزون القمح المصري، الذي هو ناجم عن إنتاج محلي أو واردات دفعت القاهرة تكلفتها للمورّدين، من جانب آخر، فضلاً عما ينطويان عليه من «إساءة» أو «عدم لياقة»، في أقل تقدير.

صحيح أن هذه الوقائع لا تمثل ممارسات اتصالية نادرة على المستويين الإقليمي والعالمي، وأن هناك الكثير من التصريحات المُسيئة، وزلات اللسان، التي يتورط فيها زعماء ومسؤولون في عديد البلدان، لكن ما يحدث في بعض الدول العربية في هذا الصدد ما زال يطرح إشكالاً متجدداً بانتظام.

والشاهد أن اختيار المسؤولين في بلداننا العربية يجب أن يتم من خلال سياسة مُحكمة، تضمن تمتعهم بالحد الأدنى من القدرات الاتصالية، أو توفر لهم تدريباً متكاملاً لتعزيز أدائهم الاتصالي، لأن تكلفة الإخفاق كبيرة، وتكرار الإخفاق مُؤسف.