د. ياسر عبد العزيز
TT

ماسك وزوكربيرغ في «نادي القتال»

ليس لديّ أي معلومة تفيد بأن أياً من رجلي التكنولوجيا المليارديرين العالميين، مارك زوكربيرغ مؤسس «ميتا»، وإيلون ماسك صاحب «إكس» (تويتر سابقاً)، قد شاهد فيلم «نادي القتال»، الذي صدر في عام 1999، وفجّر مشاعر متضاربة من الإعجاب والاستهجان، قبل أن يتكرّس وضعه بين الأفلام المُهمة والمؤثرة في سينما التسعينات.

الفيلم جيد، ويستحق المشاهدة، ليس فقط لفرادة قصته أو جودة صنعه أو شهرة أبطاله، ولكن أيضاً لأنه كان مثار حالة نقدية استمرت سنوات، وهي حالة قرّبته من مداخل عدة؛ بعضها يتعلق بسيادة النزعة الاستهلاكية، وهيمنة المؤسسات الاقتصادية على حياة الإنسان الفرد، وبعضها الآخر يتصل بمفهوم الذكورة، وكيفية استعادتها، عبر إحياء أحد أقدم أنماط التعبير عنها؛ أي القتال بمعناه المُجرد وليس المجازي.

يحكي الفيلم عن موظف عادي في إحدى شركات السيارات يقاسي الأرق والوحدة، تأخذه الظروف إلى صديق مُفترض يجسّد قيماً وأسلوب حياة مغايراً تماماً له، ثم تقودهما الأحداث إلى تأسيس «نادي القتال»، في قبو إحدى الحانات، حيث يمارسان القتال بالأيدي العارية، ليفرغا طاقات ويتجاوزا أزمات، قبل أن ينضم لهما آخرون.

لقد مرّ وقت طويل على مشاهدتي لفيلم «نادي القتال»، ومع ذلك فإن الكثير من مقاطعه وجمله الحوارية ما زالت عالقة في ذهني، وقد يكون السبب انطواءه على درجة عالية من الحبكة والمخاتلة المقصودة لتجنب تبعات المُباشرة، وهو أمر يعكس درجة عالية من الاحترافية في الكتابة للصورة. ومع ذلك، فإن عبارة وردت على لسان أحد بطلي الفيلم ستظل الأكثر إلحاحاً عندما يرد ذكره أو تُستعاد بعض صوره؛ وهي التي تقول: «القاعدة الأولى في نادي القتال: لا تتحدث عن نادي القتال».

أما هؤلاء الذين اهتموا بمتابعة تأثير فيلم «نادي القتال» وتبعاته جيداً، فلن يكونوا مندهشين حين يسمعون أن زوكربيرغ وماسك بصدد الانخراط في قتال في قفص، يستخدمان خلاله فنون القتال المختلطة، وهو الأمر الذي حدث حين عرض هذا الأخير فكرة المواجهة العنيفة على «خصمه اللدود»، وهي الفكرة التي قبِلها الأول من دون تردد.

والسبب في ذلك يكمن في أن بعض «التّبعات الضارة» التي نجمت عن نجاح «نادي القتال» تجسّدت في افتتاح عدد من النوادي المشابهة خلال العقد الأول من الألفية الثالثة؛ ومن بين تلك النوادي تأسس «نادي قتال السادة»، الذي كان معظم أعضائه، كما تفيد التقارير الصحافية، من صُنّاع التكنولوجيا.

حدث ذلك بموازاة الفورة الهائلة لشركات التكنولوجيا الكبرى، واتساع أعمالها وازدهار أرباحها بشكل غير مسبوق في تاريخ المال والأعمال، وما أفرزته من طبقة من «الموظفين» ورواد الأعمال الذين اجترحوا معجزات مالية، عبر أفكار تكنولوجية، مكنتهم من «تسيد» عالم المال والأعمال في سنوات قليلة.

سيمكن اعتبار أن تأثير «نادي القتال»، أو أي نادٍ للقتال، كان هو العامل الأساسي لدفع الأرق وعدم اليقين والشعور بهشاشة الأوضاع لو حافظ ماسك وزوكربيرغ على القاعدة الذهبية له: لا تتحدث عن نادي القتال.

لكن يبدو أن تلك القاعدة جاءت على النقيض تماماً في حالة عملاقي التكنولوجيا؛ أي: أفضل من القتال نفسه... الحديث عنه.

سأفترض أن ماسك، الذي دفع 44 مليار دولار أميركي ليمتلك «تويتر»، قبل أن يدخله حاملاً حوض مغسلة، ويطيح معظم العاملين فيه، ويجري تغييرات صادمة زعزعت مكانة المنصة، قبل أن يغير اسمها إلى «إكس»، كان يتبنى هذه القاعدة الأخيرة تماماً، وسأفترض أيضاً أن زوكربيرغ، الذي أطلق «ثريدز» لمنافسة «إكس» ولم يصادفه نجاح كبير، استحسنها.

كان طه ياسين رمضان نائب الرئيس العراقي الراحل صدام حسين سباقاً في اقتراح المنازلة المباشرة بين خصمين لدودين، حين اقترح نزالاً بين رئيسه والرئيس الأميركي المُعادي له آنذاك جورج دبليو. بوش، في مكان محايد، وبإشراف أممي، عوضاً عن الحرب المدمرة التي ستكلف الخصمين وتنهكهما، لكن أحداً في واشنطن لم يجد هذا العرض مناسباً.

وعلى النقيض تماماً، فقد وجد زوكربيرغ أن فكرة ماسك للنزال مقبولة، والسبب يكمن في أن الحديث عنها سيحقق العائد المطلوب؛ أي أن تبقى أخبار الخصمين المتنافسين رائجة، والبحث عنهما جارٍ، والعالم يقف مشدوهاً على أطراف أصابعه، ليتابع ردود الخصمين على بعضهما البعض، وأنباء العملية الجراحية التي سيجريها ماسك وقد تُرجئ النزال، والمكان المفترض أن يجري فيه، وما إذا كان في «الكولوسيوم» أم حلبة أخرى.

وكما يقول المصريون؛ فتلك «اشتغالة» جديدة، يدبرها رجلا التكنولوجيا والأموال البارزان، والعالم يموّلها مالاً واهتماماً، في حلقة جديدة من حلقات «السوشيال ميديا»، التي لا يخفت ضجيجها، ولا تنتهي عجائبها.