يستدعي الاعتداء الأخير على المصريين الأقباط كثيراً من وقفات التأمل والتدبر، تبدأ من الموعد واختياره، أي وقفة شهر رمضان الكريم، وصولاً إلى الطريقة البشعة التي جرى بها.
ظلت الوحدة الوطنية بين المصريين حائطاً وسدّاً منيعاً أمام هجوم الأعداء من الخارج، وعليه، فما يجري حالياً ليس إلا محاولة مدانة وجبانة لتفتيت النسيج الاجتماعي المصري، وتحويل حالة الوئام المجتمعي إلى خصام قبلي، وتلويث السلام الداخلي بالدماء والكراهية.
راهن أعداء مصر طويلاً على هذا التضامن، ومقدرتهم على خلخلته وحلحلته، غير أن الوعي التاريخي للمصريين في كل مرة يبطل فصلاً جديداً من فصول المؤامرة.
البيان الذي صدر عن الكنيسة القبطية غداة الاعتداء الغاشم جاء فيه من نصه: «إن هذا العنف والشر يستهدف قلب مصر ووحدتنا الوطنية التي هي أثمن ما نملكه، ونحفظه ونحميه».
مَثّلت حادثة إرهاب المنيا ولا شك ضربة قوية في قلب الأمة، وعرضت أبناءها للمخاطر، وأمنها القومي للخطر، ولهذا كان لا بد من أن يكشر الأسد عن أنيابه، ويذود عن أرضه وعرضه ومواطنيه وسلامتهم النفسية والجسدية.
الكلمة التي وجهها الرئيس عبد الفتاح السيسي لعموم المصريين مساء الحادث الأليم نزلت برداً وسلاماً على القلوب، إذ اتفقت الإرادة الرسمية للدولة مع التوجهات الشعبوية والنخبوية، على أن المخطط الجهنمي يستهدف كسر تماسك المصريين، ولذا فإن الصمت لا طائل من ورائه، وذراع مصر الطولى قادرة على معاقبة كل من يريد بمصر شرّاً في أي مكان حول العالم.
حكماً تتسق الضربات الجوية المصرية لقواعد الإرهاب الدولي مع المواثيق الدولية، إذ تنص المادة «51» من ميثاق الأمم المتحدة على أنه «ليس في هذا الميثاق ما يضعف أو ينتقص الحق الطبيعي للدولة، فرادى أو جماعات، في الدفاع عن أنفسها إذا اعتدت قوة مسلحة على أحد أعضاء الأمم المتحدة». هل ما يجري على تراب الشقيقة ليبيا مهدد لأمن مصر القومي فقط أم لبقية العالم؟
قبل بضعة أيام وفي تقرير لها قالت صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية إن «أفريقيا هدف جديد لـ(داعش)»، وعلى هذا الأساس يفهم المرء التكالب الإرهابي الأممي الذي نراه في شرق ليبيا وغربها، إذ تعتبرها جميع التنظيمات الإرهابية منفذاً لها إلى شمال غربي أفريقيا من جهة، وإلى وسط القارة السمراء من ناحية أخرى، والقارة مع الأسف مهيَّأَة لانتشار مثل تلك الجماعات الظلامية، بسبب انتشار الفقر وارتفاع معدلات البطالة، وتزايد المشكلات الطائفية، ناهيك عن التهميش الاقتصادي والسياسي، وجماعة بوكو حرام وأقرانها خير دليل على وجود حاضنة أفريقية يمكن أن تهدد سلام العالم.
في شهادته يوم الثلاثاء 23 مايو (أيار) الحالي أمام لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ الأميركي قال دان كوتس، مدير الاستخبارات الوطنية الأميركية: «إن هجوم مانشستر يذكِّرُنا مرة أخرى بأن القضاء على تنظيم داعش بمعقله بسوريا وإن اعتُبِر عنصرا أساسيا في القضاء عليه، إلا أن ذلك لن يضع حدّاً لمخاطر وقوع هجمات أخرى في الغرب»، ومضيفاً: «التهديدات حقيقية ولن تختفي دفعة واحدة، ولهذا نحن في حاجة للقيام بكل ما في وسعنا لحماية شعبنا من هذه الأنواع من الهجمات».
مجابهة مصر للإرهاب اليوم تمضي على صعيدين: الأول اللوجيستي والأمني والعسكري، ولهذا رأينا الرئيس السيسي يوجه خطابه للرئيس الأميركي الذي يضع نصب أعينه وفي مقدمة أولوياته مسألة محاربة الإرهاب، فواشنطن تمتلك الآن من الإرادة ومن التقنيات الاستخباراتية والمعلوماتية، ما يمكنها من العمل على دحر الإرهاب، قبل أن يحول العالم إلى جحيم مقيم.
أما الصعيد الثاني، فهو الفكري والآيديولوجي، وقد أشار الرئيس المصري إلى أن مصر عضو فاعل في المركز الخاص بمحاربة الإرهاب الفكري الذي أسسته المملكة العربية السعودية، وتم افتتاحه خلال زيارة الرئيس الأميركي أخيراً، مما يعني أن المجابهة باتت تأخذ في اعتبارها الأبعاد الآيديولوجية المكذوبة والمغشوشة، التي يتم من خلالها نشر أفكار «الفئة الضالة»، بحسب وصف الملك عبد الله بن عبد العزيز (طيب الله ثراه).
لن تسقط مصر أبداً بإذن الله، وهو أمر يدرك أهميته جميع المنظرين الاستراتيجيين حول العالم، فهي دون أدنى شوفينية موقع وموضع تلاقي قارات العالم، ووقوعها يعني خللاً استراتيجياً في شكل العالم القديم، و«داعش» ومن لفَّ لفها لا يداري ولا يواري أهدافه الإرهابية، بالنسبة للقارة الأوروبية الأقرب جغرافيا لشمال غربي أفريقيا.
لم يعد هناك مزيد من الوقت لإضاعته، ذلك أن كل ساعة تمرّ دونما مجابهة حقيقية، يكتسب فيها الإرهاب الأسود مساحة على الأرض، وفي العقول.
هل من استراتيجية دولية شاملة وفاعلة؟
لا يبدو أن ذلك كذلك في القريب العاجل، رغم أن الرئيس السيسي قَدَّم خطة من أربعة عناصر، تبدأ بوضع حد للتمويل والدعم الآيديولوجي للجماعات المتطرفة، ومن ثم مواجهة تلك التنظيمات دون تمييز، وثالثاً المواجهة الشاملة لمن يدربه ويموله، وأخيراً شلّ قدرة تلك التنظيمات على تجنيد المتطرفين.
ما جرى لأقباط مصر قبل أيام جرس إنذار لشعوب المنطقة، فالإرهاب يعمل على التفكيك والتفخيخ المعنويين ليحول الدول ذات التاريخ إلى جماعات متناحرة سياسياً وعرقياً ومذهبياً، وعليه، تبقى الحاجة الماسّة إلى رؤية عاجلة لتفعيل مقررات قمم الرياض، لا سيما الخاصة بالتصدي للإرهاب عملياً على الأرض بالقوة المسلحة، وفي العالم الافتراضي بالقوة الناعمة.
أبداً لن تسقط مصر ما دام المصريون رفعوا الشعار «مسلم... مسيحي.... يد واحدة».
8:2 دقيقه
TT
أبداً لن تسقط مصر
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة