ريتشارد والتون
TT

حول الهجوم الإرهابي في مانشستر

يعد الهجوم الإرهابي الذي ضرب مانشستر، مساء الاثنين الماضي، الأكثر دموية منذ ما يعرف بتفجيرات 7-7 ضد محطات مترو الأنفاق عام 2005. ويعد واحداً من أكثر الهجمات الصادمة التي تعرضت لها بريطانيا.
المؤكد أن مثل هذا الهجوم سيثير موجة من الألم والغضب بمختلف أرجاء البلاد، مع محاولة الأسر والمجتمعات الصغيرة استيعاب مدى بشاعة استهداف مجموعة معظمها من الفتيات في سن المراهقة، يستمتعن بحضور حفل موسيقي.
وإذا ما ثبت أن هذا الهجوم استوحى إلهامه أو جرى توجيهه من جانب تنظيم داعش، فإن هذا لن يزيد الشعب البريطاني إلا عزماً على إلحاق الهزيمة بهذا التنظيم الراديكالي.
المعروف أن مانشستر سبق وأن تعرضت لأعمال إرهابية على صلة بآيرلندا فيما مضى، والمؤكد أن أبناءها سيثبتون للعالم بأسره أن عزيمتهم وصلابتهم باقية.
والآن، من المحتمل أن تتعرض وكالة الاستخبارات الداخلية «إم آي 5»، والوحدات الشرطية المعنية بمكافحة الإرهاب، والتي تعاني بالفعل من عبء هائل في تعاملها مع هجوم ويستمنستر الإرهابي الذي وقع منذ 8 أسابيع فحسب، لضغوط كبيرة في خضم مواجهتها تساؤلات حول كيف أخفقت السلطات في الحيلولة دون إقدام متطرف آخر «معروف» على إراقة دماء هذا العدد الضخم من الأبرياء.
يكمن أحد التفسيرات في التفاقم الهائل مؤخراً في التهديدات التي تواجهها بريطانيا بإيعاز من «داعش». في الواقع، لقد نجحت السلطات البريطانية بالفعل في منع كثير من مثل هذه المحاولات. على سبيل المثال، تمكنت قيادة مكافحة الإرهاب في لندن التابعة لاسكوتلنديارد من إحباط 3 مخططات إرهابية منفصلة (تضمنت هجمات بالسكاكين في معظمها) على مدار الأسابيع الأربعة الماضية، منها اثنتان فصلت بينهما 24 ساعة فقط.
وجرى توجيه اتهامات بالإرهاب إلى جميع المتورطين، وبينهم 4 سيدات. واللافت أنهم جميعاً يعيشون في بريطانيا منذ سنوات، ولم يكونوا مقاتلين أجانب عادوا إلى البلاد بعد انهيار «داعش»، وإنما هم متطرفون معروفون استوحوا أفكارهم التي دفعتهم لتنفيذ أعمال إرهابية من خلال شبكة الإنترنت، والاتصال عبر شبكات التواصل الاجتماعي مع إرهابيين بالخارج. وعلى ما يبدو، ينطبق الوصف ذاته على سلمان عبيدي، الانتحاري المسؤول عن هجوم مانشستر، والذي ولد وترعرع في مدينة مانشستر لأبوين ينتميان في الأصل إلى ليبيا.
ومن المقرر أن تتولى وحدة مكافحة الإرهاب في مانشستر قيادة التحقيق في هذا الهجوم. كانت هذه الوحدة قد تأسست في أعقاب هجمات 7-7، عندما أدرك المسؤولون أن ضعف القدرة على مكافحة الإرهاب خارج حدود لندن ربما أسهم في تردي مستوى الاستخبارات المرتبطة بمنفذي هجوم 2005، الذين عاش معظمهم داخل وحول ليدز.
الملاحظ أن ثمة ترابطاً كاملاً الآن داخل الشبكة الشرطية الحديثة المعنية بمكافحة الإرهاب داخل بريطانيا، مع وجود وحدات تابعة لها داخل جميع المدن الكبرى. ومع انطلاق جهود التنسيق من لندن، يعكف خبراء شرطيون حالياً بمختلف أرجاء بريطانيا على المعاونة في التحقيق الذي تجريه وحدة مانشستر. المعروف أن شبكة الشرطة سبق لها إجراء اختبار لاستجابتها لهجوم بمثل هذه الطبيعة مرات عدة، ومن المؤكد أن التحقيق سيجري تنسيقه على نحو جيد.
ومع ذلك، فإن المعنيين بمكافحة الإرهاب يقرون بالفعل أن الإنجاز الوحيد الحقيقي يتمثل في عدم وقوع هجمات إرهابية. واليوم نجد أن بريطانيا تعرضت لهجومين أوقعا عدداً كبيراً من الضحايا في أكبر مدينتين بها خلال الشهرين الماضيين.
وفي تعليق علني نادر من جانبه، قال أندرو باركر، رئيس «إم آي 5»، الاثنين، إن فريق العمل المعاون له «يركز جل اهتمامه» على محاربة الإرهاب. وفي أعقاب هذين الهجومين، من المحتمل أن يوجه باركر الوكالة نحو إجراء إعادة تقييم عاجلة لجميع المتطرفين «المعروفين» داخل بريطانيا، للتعرف على ما إذا كانت هناك حاجة لتعزيز جهود المراقبة أو تنفيذ عمليات سرية.
ويأتي قرار رفع مستوى التأهب داخل بريطانيا إلى «خطير» من جانب مركز التحليل المشترك المعني بالإرهاب، ليؤكد أن «إم آي 5» لا تستبعد إمكانية وقوع مزيد من الهجمات.
ومن المحتمل أن يستمر هذا التفاقم في التخطيط الإرهابي لشهور - بل وربما سنوات - قادمة، رغم النجاحات العسكرية في العراق وسوريا. وكلما زادت صعوبة انتقال الراديكاليين من بريطانيا إلى الأراضي الواقعة تحت سيطرة «داعش»، تنامت احتمالات أن يشنوا هجمات داخل الغرب. وربما تكون نهاية «الخلافة في صورتها الملموسة» المزعومة قد اقتربت، لكن «الخلافة الافتراضية» عبر الإنترنت ستبقى قائمة.
أما الدرس المستفاد من هجومي ويستمنستر ومانشستر فيتمثل في أن الإرهاب الذي يُسقط أعداداً ضخمة من الضحايا ليس من الضروري أن يأتي في صورة هجمات معقدة، على غرار تلك التي وقعت في باريس في ديسمبر (كانون الأول) 2015. في الواقع، فإن الأفراد من الممكن بسهولة تحريضهم على مهاجمة كثيرين باستخدام سكاكين وسيارات وعبوات ناسفة مصنوعة داخل المنزل. في المقابل، فإن السلطات البريطانية نادراً ما يخالجها القلق حيال إمكانية وقوع هجمات بأسلحة نارية، وذلك بفضل القوانين البريطانية الصارمة في هذا الشأن. ويتمثل السبيل الوحيد في منع مثل هذه الهجمات في سبر أغوار عقلية المتطرفين ونواياهم، ثم إحباط مخططاتهم، إما من خلال الاستخبارات الجيدة أو المراقبة السرية، أو من خلال جهود الإبلاغ من جانب أفراد من الأسرة أو المجتمع الصغير الذي ينتمي إليه المشتبه بهم.
والآن، ثمة تساؤلات خطيرة ستثار بمختلف أرجاء بريطانيا حول التجمعات المسلمة داخل البلاد، وما إذا كانت القيادات المسلمة والشخصيات التي تشكل قدوة، تقول وتفعل ما يكفي للتصدي للخطابات الصادرة عن الجماعات الإرهابية الإسلامية. ورغم وجود استراتيجية وطنية ناضجة ومتطورة لمنع الإرهاب داخل بريطانيا، فإن مئات الأشخاص المولودين داخل بريطانيا غادروا البلاد خلال السنوات الأربع الماضية للانضمام إلى «داعش»، ولا يسع المرء هنا سوى التساؤل عما ينبغي فعله للحيلولة دون ازدهار هذا النمط من التطرف الراديكالي.
ومن المعتقد أن الحكومة البريطانية سيساورها قلق خاص حيال الغياب المحتمل للتناغم المجتمعي داخل شمال غربي إنجلترا بعد هذا الهجوم، مع احتمالات وقوع ردود أفعال غاضبة ضد الأقليات المسلمة. واللافت أن مستوى الاندماج المجتمعي في هذه المنطقة أقل عن كثير من المناطق الأخرى داخل بريطانيا، في الوقت الذي تمكنت جماعات يمينية متطرفة من ترسيخ وجودها هناك، مثلما تجلى في مقتل النائبة البريطانية جو كوكس العام الماضي، على يد توماس مير.
وفي الوقت الذي لا يوجد فيه حل واحد واضح للتهديدات المستمرة الصادرة عن الإرهاب بمختلف أرجاء العالم، فإن ثمة أملا في نجاح مبادرات مثل إنشاء «المركز العالمي لمكافحة الآيديولوجية المتطرفة»، التي أطلقتها السعودية هذا الأسبوع. ومن شأن اتخاذ مثل هذه الخطوات الجريئة، خاصة تلك التي تشارك فيها دول إسلامية، تقليص عدد الأسر التي سيعصف بها الإرهاب مستقبلاً.
من ناحية أخرى، فإن ظهور شبكات التواصل الاجتماعي كان له تداعيات غير مقصودة، منها توفير دفعة قوية للتطرف، وأداة لنشر الخطابات المتطرفة عبر أرجاء العالم، وتيسير التواصل بين أنصار هذا الفكر. ولا تزال ثمة حاجة لبذل جهود أكبر بكثير لمكافحة مثل هذه العوامل الدافعة نحو مزيد من الراديكالية.
ويتعين على جميع الدول الآن صياغة استراتيجيات شاملة لمكافحة الإرهاب، تتضمن إجراءات لرصد والتعامل مع التطرف في شتى صوره.

* مدير مؤسسة «مكافحة الإرهاب العالمية المحدودة»، وزميل بارز لدى المعهد الملكي للخدمات المتحدة، تراءس قيادة مكافحة الإرهاب داخل اسكوتلنديارد بين عامي 2011 و2016.
* خدمة: «واشنطن بوست»