حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

فرنسا جديدة... أوروبا تتغير

بعد «البريكست»، وتسلم دونالد ترمب الرئاسة الأميركية، كل الأنظار تركزت على الرئاسيات الفرنسية، والانتخابات الآتية في ألمانيا، لأنه لأول مرة منذ معاهدة روما عام 1957 بدا أنه يتوقف على نتيجة هذه الانتخابات، الفرنسية على وجه التحديد، مستقبل أوروبا: مصير «الاتحاد الأوروبي» وكل ما قدمه على الصعد كافة وبالأخص الحقوق العامة والحريات، إلى اتفاقيتي «شينغن» و«اليورو»... وكل الوضع الاقتصادي في أوروبا والعالم.
الفرنسيون عشية المرحلة الأولى من الرئاسيات، كانوا يؤكدون أن فرنسا تحتاج إلى تغيير، إزاء الصعوبات الاقتصادية والتراجع الاجتماعي، وأمام الإرهاب الخطر الذي طرق كل المدن الفرنسية. لذلك استأثرت المرحلة الأولى من رئاسيات 2017، باهتمام كبير تجاوز فرنسا، وهزت المعركة، التي كشفت هُزال كل الطبقة السياسية التقليدية في اليمين واليسار، كل أركان الحياة السياسية الفرنسية، ووضعت المد الشعبوي المتطرف، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار تحت المجهر.
منذ بداية الرئاسيات وتتالى الفضائح المالية المشينة، المتأتية عن استيلاء غير مشروع على المال العام، كما في حالتي مرشح اليمين فرنسوا فيون واليمين المتطرف مارين لوبان، والتصدع في صفوف الحزب الاشتراكي، ما حال دون التفاف تيارات الاشتراكي حول بنوا هامون المرشح الرسمي لهذا الحزب، لم يجد الناخب الفرنسي شخصية كارزماتيكية مقنعة، والأمر ليس بجديد، فمنذ رئاسة ساركوزي إلى هولاند، لم تعرف الحياة السياسية الفرنسية، بشكل عام، قيادات ذات وزن، وربما مقابل ثبات تقدم مرشحة الجبهة الوطنية في كل استطلاعات الرأي، جرى في مكان ما، الدفع بالمرشح إيمانويل ماكرون، وزير الاقتصاد الفرنسي حتى أغسطس (آب) 2016 والمستشار قبل ذلك في مكتب الرئيس هولاند، للترشح من خارج الانقسام الحزبي الكبير والمترهل، ومن خارج الطبقة السياسية، ومن خارج معادلة اليمين واليسار السائدة منذ فوز الجبهة الشعبية في ثلاثينات القرن الماضي، وقد حظي ماكرون بمواكبة إعلامية والتفاف، للموازنة مع لوبان مرشحة اليمين المتطرف.
البعض يرى أن ماكرون الذي حاز أكثر من 24 في المائة من أصوات المقترعين، شكل ظاهرة تم تحضيرها لمرحلة ما بعد تصدع الأحزاب الفرنسية التقليدية، ودخول الجمهورية الخامسة مرحلة الشيخوخة، وبأي حال هذه الجمهورية كانت يوماً على قياس الجنرال ديغول، ووحدها قامة ميتران أحدثت توازناً مع مؤسس الجمهورية، وبينهما مرّ رؤساء وليس صنّاع صفحات تاريخية. وهكذا جاءت الرئاسيات الفرنسية في مرحلتها الأولى لتقول إن الخيبة الكبيرة تمت ترجمتها في صناديق الاقتراع، وإن فرنسا تريد التجديد، وإن أكثرية كبيرة من المقترعين قررت الخروج من تحت خيمة الحزبين التقليديين، الجمهوري (الديغولي) والاشتراكي.
قبل السابع من مايو (أيار) موعد الجولة الرئاسية الثانية والحاسمة، بدأت حركة فرنسية واسعة جداً، للالتفاف حول مرشح الوسط ماكرون دفاعاً عن قيم الجمهورية ومبادئها، ولإقامة حاجز انتخابي كبير، يمنع تقدم التطرف والتعصب والكراهية والانغلاق والإلغاء، وهي العناوين التي تحملها الجبهة الوطنية ومرشحتها مارين لوبان، التي تبجحت بعد تأهلها للدور الثاني بالإعلان أنه «حان الوقت من أجل تحرير الشعب الفرنسي» (...)، وحان الوقت لـ«وضع حدٍ للهجرة ومحاربة الإرهاب الإسلاموي واستعادة السيادة الوطنية والنقدية والاقتصادية لفرنسا». عناوين براقة تستفيد منها المرشحة لوبان لذر الرماد في عيون فئات فرنسية، دفعت أكثر من سواها وزر الأزمات الاقتصادية الشاملة، والمراوحة في استنباط الحلول لجهة محاكاة مصالح فئات واسعة جداً من الشباب، وكذلك أوساط عمالية حاصرتها سياسات مالية فاقمت الوضع الاجتماعي.
مع بلوغ نسبة المقترعين نحو 80 في المائة وهي نسبة قياسية، ومع الأخذ بالاعتبار الموقف السلبي جداً من المرشح الراديكالي ميلونشون حيال المرحلة الآتية، واتجاه أوساط من اليمين الجمهوري ناحية مارين لوبان، ستبقى الأرجحية أمام ماكرون لتحقيق فوز عريض، لكن بانتهاء الرئاسيات تكون المرحلة الجديدة وهي انتقالية بالتأكيد قد بدأت، والموعد الحاسم هو انتخابات الجمعية الوطنية. وهنا نشير إلى أن شعار ماكرون من أجل «فرنسا تتسع للجميع»، كي يكون بالإمكان وضعه في التطبيق، يتطلب أكثرية نيابية، تتيح، كما وعد ماكرون، وصول وجوه جديدة يتم عبرها وبواسطتها، إدخال إصلاحات تغيير تدريجي، بحاجة لها النظامُ السياسي الفرنسي. والسؤال هو مع احتفاظ الأحزاب التقليدية بأجهزتها وبنيتها، ومع نظام انتخابي أساسه الدائرة الفردية والعوامل الكثيرة المؤثرة في النتائج، وأبرزها شخصية المرشح والحزب الداعم، هل سيكون مُتاحاً تشكيل تحالف انتخابي وسطي بديل، يحقق الفوز وتنبثق عنه حكومة تقود المرحلة الآتية، نحو فرنسا جديدة مؤثرة باتجاه تغييرات ضرورية لأوروبا والعالم؟