سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

دولة لا تقوم... ووطن لا يتم

يرى الدكتور فواز طرابلسي في «فيروز والرحابنة» أن الأخوين عاصي ومنصور الرحباني كانا أفضل مفكرين سياسيين، أو وطنيين في لبنان، خلال نصف قرن. يقصد بذلك مسرحهما الذي تضمّن أيضاً أجمل وأعمق أغاني فيروز. وأعتقد أن بحث الدكتور طرابلسي، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية الأميركية، هو بين أفضل الدراسات التي وضعت عن أشهر ثلاثي فني في تاريخ لبنان.
وكلما طاف لبنان فوق أزمة سياسية جديدة، أعود طوعاً إلى مسرح الرحبانيين. لم يتركا ضعفاً في تركيبة لبنان إلا حاولا مداواته، بالموسيقى والشعر والحنان والأمل. ومعهما دوماً صوت فيروز، الذي يحوِّل الشعر إلى وطن، والموسيقى إلى وطن لا يُنسى. لكنني أتساءل، هل نظرية طرابلسي صحيحة حول موقع الرحبانيين بين المفكرين والكتّاب والأدباء الذين كتبوا عن لبنان؟ بكل جرأة: نعم. لقد تجاوز مسرحهما، ببساطته وعفويته وغَرْفِه من التراث الريفي، كل المطالعات الفكرية والآيديولوجية التي حاولت فلسفة الوجود اللبناني.
لم يترك الرحبانيان وجهاً من وجوه الجمال والصراع والخوف في تكوين لبنان، إلا وأعادا رسمه بريشتهما الفائقة الإبداع. وذروة إبداعهما كانت رؤيتهما لوطن قابل للبقاء، ليس في متانة وصمود فقط، بل في ألفة وكفاية وغبطة. وقد زيَّنا هذا الوطن الممكن وغير الصعب، بأجمل الأغاني وأرق الشعر وأرقى الحوار.
في هذا المعنى، كان الرحبانيان مؤسسي الدولة التي لم تقم، والوطن الذي لم يتم. واختصرت فيروز حقيقة لبنان الصعبة بأغنية بسيطة: «القمر بيضوي عَ الناس، والناس بيتقاتلوا». ولا يشبعون قتالا. وبدل أن يتعظ اللبنانيون بسنوات الحرب المريعة، أو بالمآسي التي تملأ سوريا والعراق، ما زالوا يتقاتلون حول أي موضوع لا يستحق الشجار ولا الخناق ولا حتى الجدل.
الصراع الأخير حول «قانون جديد» للانتخابات العامة. وتهديد بالنزول إلى الشارع. كيف قانون وكيف شارع؟ كيف شارع وكيف برلمان؟ لقد قامت البرلمانات من أجل أن تناقش فيها القضايا برقي وحكمة تجنباً للوصول إلى الشارع وفلتانه. وكان لبنان من أوائل الدول العربية التي عرفت البرلمان، ولو أنه لم يعرف الديمقراطية الحقيقية حتى الآن. وكان الرئيس سليم الحص يردد دوماً أن في لبنان حريات كثيرة وديمقراطية قليلة.
لكن في مناخ الحرية هذا، على الأقل، نشأ المسرح الرحباني، بالإضافة إلى مسارح عدة أخرى لم تصل إلى مستواه. وثمة أسباب كثيرة جميعها أوّلي وجوهري، يتفوقها كلها صوت فيروز الذي يصفه طرابلسي بـ«الأعجوبة». وأنا من الذين يعتقدون أن بعض الناس والأشياء في الحياة، ليست في حاجة إلى نعت. الاسم هنا هو صيغة التفضيل.