سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

معجزة صغيرة

يتذكر اللبنانيون كل سنة، حربهم اللعينة بحسرة وخوف. الصور المسترجعة مرعبة. الواقع ليس مطمئناً. عشية الذكرى الـ42 للحرب الأهلية، منذ أيام، كانت ثمة خيام تنصب وسط بيروت، وأحزاب لها صبغة دينية واحدة، تستعد للتظاهر ضد أحزاب أخرى، من طيف ديني مختلف، متهمة إياها بالانتصار للتمديد غير الشرعي للمجلس النيابي. كادت الأجواء بانقساماتها، وفوضويتها، تكون مشابهة لعام 1975. نزع رئيس الجمهورية ميشال عون فتيل الأزمة، ولو مؤقتاً بتأجيل جلسة التمديد النيابية. لكن ثمة إحساس بأن الانزلاق إلى الجحيم يمكن أن يبدأ بزلّة. يمكن للحرب أن تندلع من مستصغر الشرر. هذا ليس شعراً. والحذر الشديد ليس عيباً.
لبنان ساحة تنتظر باستمرار اندلاع النار، وهو مختبر متقدم للمنطقة أيضاً. كان سبّاقاً في الاقتتال المذهبي الدموي، 35 سنة قبل الآخرين. وفي اعتماد الانتخاب على أساس طائفي. كان رائداً في تأسيس المدارس والجامعات، وفي الصحافة والإعلام وفي حمل لواء اللغة العربية كما جعل الرطن بالأجنبية تقليعة برجوازية محببة، على معايبها. وقف اللبنانيون في الساحات إثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري وهتفوا ولوحوا بعلمهم الوطني قبل ست سنوات من رؤية مشهد مشابه في ثورة 25 يناير المصرية في «ميدان التحرير». مع اختلاف الدوافع والأهداف، خاض اللبنانيون التجارب والمغامرات بإخفاقاتها ونجاحاتها، ولم يتعظ الآخرون، وربما أنهم هم أنفسهم أيضاُ لم يستخلصوا العبر.
مع ذلك، بوادر الأمل كثيرة. ثمة خيوط ضوء تستحق أن تلتقط. في ذكرى الحرب، لم يكن الظلام دامساً. هناك جبهة معارضة نابضة تتشكل بهدوء. شبان المجتمع المدني الذين بدأوا مظاهراتهم العام الماضي، بفوضوية، اكتسبوا خبرة ونضجاً. لم يعد سياسيو النظام السياسي التقليدي يجابهون بقذف حبات البطاطا على سياراتهم ثم العودة إلى البيت. «طلعت ريحتكم» و«بدنا نحاسب» و«سبعة» وغيرهم باتوا أكثر حنكة وذكاء، يتسلحون بمعرفة قانونية وجمع المعلومات، وابتكار أساليب الضغط السلمية، والنَفَس الطويل.
بمرور الزمن تعلّم اللبنانيون الاحتجاج بألف لون. «المبنى الأصفر» أو ما بات يسمى «بيت بيروت» على خط التماس الحربي، القديم، كان موقعاً محبباً للقناصة لأنهم يكشفون من مطلّه البانورامي، الأبرياء الذين يريدون اصطيادهم. هذا المبنى العتيق أعيد افتتاحه بكل ندوبه وفجوات القذائف، وكتابات المحاربين على جدرانه. إنه شاهد معماري، تحول من موقع قتالي إلى مركز ثقافي. لم يولد بصيغته الجديدة لولا نضالات طويلة وتضحيات جسام من أناس عرفوا أن تعلم درس الحرب ليس مرهوناً بوقت إنما حفر مستمر في الذاكرة.
في ذهن كثيرين ممن يكتبون الرواية، مكافحة الحرب قائمة، من حنان الشيخ إلى إلياس خوري ورشيد ضعيف وجبور الدويهي واللائحة سخية. نصوص مهما ابتعدت عن هذه التيمة، تبقى تعود إليها كالتعويذة التي لا بد منها. هكذا بقيت السينما لعقود، قبل أن تخرج قليلاً إلى فضاءات أكثر مرحاً.
السلم الحالي في لبنان يشبه «معجزة صغيرة»، نظراً «لكل ما يحصل حولنا» قال الرئيس سعد الحريري. لكنه سلم لم يأت مصادفة، ليس فقط صنع «إرادة غربية»، أو «مظلة دولية» كما يحلو للبعض أن يفسر. هو رغبة شعب اكتوى بالنار، ولم يزل يدفع ثمن جنونه. أضرار الحرب، بعضها لم يرمم بعد. أهالي المفقودين، وهم بالآلاف لا يزالون يبحثون عن آبائهم وأولادهم، خيمتهم المنصوبة منذ 12 سنة في ساحة الشهداء، ودموعهم التي تسيل، عبرة لكل من يظن أن العنف يجلب سعادة أو سكينة.
النظام السياسي يتخبط. فيما جمعية مثل «مارش» تجمع أبناء الأحياء البائسة التي سبق لها أن تقاتلت في ورش تدريب مسرحي مع فنانين محترفين. يلتقي الشبان باسم التمثيل، يتصارحون يتصالحون، ويكتشفون كم أن نظرتهم كانت قاصرة. هكذا فعلت «مارش» في طرابلس، وهذا ما تفعله في بيروت، وعلى شاكلتها عشرات الجمعيات الأهلية الصغيرة التي تعمل في وحشة الأحياء المهمشة.
الخطر قائم. انتظار انفجار خزّان العنف، جزء من حياة اللبنانيين، وسرّ الحركة اليومية المناهضة للحرب. وسبب في أن تأتي سيدة مثل أندريه صفير - زملر وتفتتح لغاليري الفنون المعروف والخاص بها في هامبورغ فرعاً في منطقة الكرنتينا بكل ما لها من رمزية، ووسط المدينة الصناعية، وتعرض آخر مبتكرات وصيحات التشكيليين العالميين الكبار. هذا الخوف الرابض أبداً في النفوس، هو الذي دفع بمنظمي «مهرجان بيروت للرقص المعاصر» ليشيّدوا مركزاً مؤقتاً، على خط الاقتتال القديم، يستقبلون فيه أهم فرق هذا الفن الطليعي في العالم، ويقولون لجمهورهم، هنا مكان لنحلم به وإياكم بمستقبل مختلف، عن ذاك الماضي الذي كسرنا معاً. الجرح طري، وما يحدث في الجوار يرفع مستوى التوتر السياسي، ويزيد منسوب الرعب.
حين يتحدث محمود درويش عن «خوف الغزاة من الذكريات» و«خوف الطغاة من الأغنيات» فلأن الفنون حين تكون تعبيراً عن ضمير الناس، لها فعل الحفر في الوجدان.
الحروب تبدو من بعيد، حمقاء وهمجية. الحرب اللبنانية، كانت أكثر عبثية من العبث نفسه. خمس عشرة سنة من السفك، تقاتلت خلالها كل الفئات مع غيرها ومع نفسها أيضاً، أعادت الجميع إلى ما قبل الماء والكهرباء وكل مظاهر المدنية.
ذكرى الحرب هذه السنة، لم تمر كحمامة بيضاء في سماء صافية. قدر اللبنانيين أن تكون حياتهم مجرد هدنة، وشعارهم تلك الأغنية البسيطة والجميلة لفيروز، التي تسأل وتجيب: «في أمل؟ إيه في أمل...»...