سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

الذئب المجروح

موسكو غاضبة من الضربة الصاروخية الأميركية على مطار «الشعيرات»، أكثر من النظام السوري نفسه. مراقبة التصريحات التي تلت الهجوم، تظهر روسيا كمن تلقت صفعة مباغتة، لم تكن تتوقعها. أن يصف الرئيس الروسي بوتين العملية بأنها «غير مشروعة»، وأن «أميركا تلعب بالنار» مع بلاده، ثم يعقد، اجتماعاً على عجل لـ«مجلس الأمن القومي» لبحث تداعيات العملية، دلالة على اعتبار روسيا أنها تعرضت لانتهاك يتوجب رداً، وقد فعلت، وإن بحدود ضيقة. كان دقيقاً رئيس الوزراء ديمتري ميدفيديف حين قال إن الضربة جعلت العلاقات بين البلدين «تتدهور لأقصى قدر ممكن، ووصلت إلى حالة الانعدام المطلق للثقة».
عبّر ميدفيديف عما يعتمل في الوجدان الروسي. موسكو لم تنس بعد، أنها غدرت - من قبل أميركا - في ليبيا، وترى أنها تعرضت لخديعة أخرى في سوريا، هذه المرة أيضاً. مهلة النصف ساعة التي أعطيت للروس قبل بدء إطلاق صواريخ الـ«توماهوك» على القاعدة الجوية السورية، اعتبرت إهانة واستخفافاً. الإبلاغ كان شكلياً، للقول بأنهم يحترمون الاتفاقيات الموقعة فيما بيننا، لكن الواقع أن الوقت كان ضيقاً، لم يتعد العشرين دقيقة، وليس كافياً لأي شيء. بحسب بوريس أوفيانسوف، الذي يشغل منصب رئيس مجلس خبراء الأمن في البرلمان الروسي. يفترض أن الرجل يعرف الخبايا العسكرية، ومطلع على خفايا النقاشات. لذلك؛ عليك أن تصغي إليه جيداً حين يتحدث عن انتهاء كل النوايا الطيبة التي كانت روسيا تعلقها على ترمب والدائرة المحيطة به. بعدما تبين أن كلامه في مكان وأفعاله في مكان غيره.
تسمع من الروس أن أميركا تخطئ حين تتصرف مع روسيا كأيام «البريسترويكا» وإذعان غورباتشوف ومن بعده يلتسين، وأنها لا تدرك أن الزمن الذي كانت فيها روسيا تؤمر طوال 25 عاماً وتطيع قد انتهى. الكلام عن أن ثلث الصواريخ التي أطلقت على مطار «الشعيرات» انفجرت، فيما ضاع الثلثان الآخران، هي محاولة روسية للقول إن أميركا تستخدم مخزونها القديم من الذخيرة الذي انتهت صلاحيته، وكان يفترض أن يتلف. السخرية هذه يقابلها إعلان روسي بتكريس 500 مليار يورو لتطوير أسلحة قواتها قبل بلوغ العام 2020. استعراض العضلات، لا ينتهي. أخبار المعدات والصواريخ والطائرات الروسية التي يتم تطويرها، وباتت تتفوق على الأميركية تتزايد. الثقة بالنفس فضيلة أحياناً، هذا إذا كانت في مكانها.
على أي حال، فعلها دونالد ترمب، وضرب عصافير عدة بحجر واحد، واتخذ قراراً، عجز عنه أوباما طوال ست سنوات، في يوم له رمزيته الكبرى للشعب الأميركي. ففي السادس من أبريل (نيسان) قبل مائة عام، دخلت الولايات المتحدة رسمياً الحرب العالمية الأولى إلى جانب الحلفاء ضد ألمانيا. وفي التاريخ عينه عام 2017 قرر ترمب أن يقول للعالم أجمع وبعمل عسكري جراحي خاطف إن أميركا لم تتخل عن دورها بصفتها شرطياً، وأنه ليس كخلفه الذي يحجم ولا يقبل. أعاد الرئيس الجديد، قبل أن يكمل المائة يوم، للأميركيين زهوهم بصفتهم قوة تتدخل لإنقاذ المستضعفين، ووجد لنفسه متنفساً من الضغوط الداخلية التي تحاصره، كما أثبت أمام مواطنيه أن الاتهامات التي لاحقته حول التدخل الروسي لانتخابه كانت سراباً، وأنه يقف في وجه بوتين بـ«قوة» حين يستلزم الأمر، ويعلنها عليه حرباً شعواء، لا مهادنة فيها.
بصواريخ عدة لم تكلفه المجازفة بحياة عسكري واحد من جنوده، خطف من كان يتهم بـ«الشعبوية» و«العنصرية» قلوب الساسة الأوروبيين الذين ارتعدوا عند وصوله إلى سدة الحكم، وكسب ودّ كثير من العرب، الذين رفعوا صوره على صفحاتهم «الفيسبوكية» و«التويترية» مع عبارة «نحبك». أقدم دونالد ترمب، إذن، على ما لم يكن ينتظر منه ويتوقع.
لكن روسيا، في المقابل، تعهدت بتعزيز دفاعات سوريا الجوية التي تهالكت بفعل الحرب. وأعلنت تعليق اتفاق السلامة الجوية مع أميركا، وإيقاف الخط الساخن بين البلدين بشأن سوريا. لكنه تصعيد لم يؤد إلى إلغاء الزيارة المقررة لوزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون إلى موسكو، كما لا يبدو، على الإطلاق، أن حرباً عالمية ثالثة هي على وشك الاندلاع. لكن صواريخ التوماهوك، انفجرت أم لم تنفجر، وأخلى السوريون المطار قدر استطاعتهم، أم لم يفعلوا، سيكون لها ما بعدها. الرئيس الأميركي يتأهب للانقضاض على كوريا الشمالية أيضاً، ولو منفرداً من دون الصين، ولا مانع من اغتيال رئيسها، إن احتاج الأمر.
الأجندة الترمبية العملية غير تلك الانتخابية. أكانت بفعل خضوع الرئيس الجديد الاضطراري للإستابلشمنت، أم لأنه غيّر رأيه في الرئيس السوري - كما قال - فالأمر سيان. الذئب الروسي المجروح، قد لا ينتقم لكرامته النازفة بمواجهة مباشرة، فأدواته كثيرة، عبر حلفائه من الصين، مروراً بإيران وصولاً إلى شواطئ المتوسط. فقبل «الشعيرات» كان تفجير بطرسبورغ. وثمة في موسكو من يربط بين العمليتين، ويتوقع المزيد من الاستهدافات الداخلية كما الخارجية. الحرب الباردة تعود حارة جداً، إذا ما بقي كل طرف، مصرّاً على أنه الأقوى. تقول كاتبة روسية إن «بوتين لم يدخل سوريا ليتركها منكسراً». والكارثة أن الذين جاءوا سوريا هم أكثر مما تحتمل البلاد، أو يستحق العباد، وكلهم يرفضون تقبل الهزيمة، ويصرون على الاستمرار حتى تحقيق النصر الموهوم على جثث الأطفال. فحين يلعب الكبار يتحتم على الصغار أن يصمتوا، وربما أن يموتوا.