أمل عبد العزيز الهزاني
أستاذة في جامعة الملك سعود في السعودية. باحثة في علوم الوراثة الجزيئية. خبيرة في الإدارة الأكاديمية. كاتبة سياسية منذ عام 2009. كاتبة مقال أسبوعي في «الشرق الأوسط».
TT

مشروع «الجينوم» البشري السعودي

تعيش المملكة العربية السعودية مرحلة إعادة تشكل، فيها تحديات وعوائق ليست بالهينة، لكن يقابلها إرادة قوية إنْ على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي.
اطلعت كغيري على عدد من برامج أو أفكار برامج التحول الوطني التي تعتبر خططاً تنفيذية لرؤية المملكة 2030 التي تستهدف تنويع مصادر الدخل وتغيير خريطة المستقبل الاقتصادي للسعودية. هذه البرامج تصمم من قبل كل مؤسسة بحسب تخصصها ومهام عملها سواء في التعليم أو الصحة أو المواصلات أو الخدمة المدنية وغيرها... والأكيد أن مهندسي هذه البرامج هم نخبة العقول المفكرة والمدبرة داخل مؤسساتهم، وذوو النظرة الاستراتيجية البعيدة، أي أنه وبشكل غير مباشر وضعت رؤية 2030 المؤسسات تحت اختبار وضع برامج تنفيذية تساهم في دعم اقتصاد الدولة وتحقيق رؤيتها الجديدة.
ولا أود أن أكون متحيزة في رأيي حول ما اطلعت عليه من برامج، لأن الأكيد أن الجميع مستعد لتقديم أفضل ما لديه، لكنني سأبدو كذلك لأسباب وجيهة. ولأبدأ بالأرقام التي هي عادة ما تكون مقنعة.
في السعودية، كغيرها من دول الشرق الأوسط، عادات اجتماعية قد تكون من مفاخر أهل المملكة، وهي حقاً فضائل وممارسات سلوكية جميلة نعرفها كلنا مثل الكرم وصلة الرحم والحرص على العلاقات الأسرية. ولكن بعض العادات تمثل العكس تماماً، أي أنها باتت عبئاً على حياة الناس وعلى الدولة وعلى الاقتصاد. من أهم هذه العادات السلبية زواج الأقارب؛ أبناء العمومة من الدرجة الأولى أو الثانية. لاحظ المتخصصون في المملكة منذ سنوات أن هذا النمط من الزواج متوسع بفعل النظام القبلي أو العزلة المذهبية، ما أدى إلى انتشار كبير لأمراض وراثية توطنت داخل بعض الأسر، والأسوأ من ذلك أن التوعية لم تكن كافية خاصة في المناطق والقرى البعيدة عن المدن، فاستمر الناس جهلاً أو تجاهلاً في ممارسة هذا العرف. وحتى بعد فرض فحص ما قبل الزواج أظهرت الإحصائيات أن 60 في المائة ممن أسفرت نتائج فحوصاتهم عن عدم ملاءمتهم للزواج لأسباب وراثية قرروا عدم الارتباط، وهذه نسبة وإن بدت مقلقة كون الأربعين في المائة الآخرين شرعوا بإكمال زواجهم رغم معرفتهم بأنهم يقدمون على خطوة تمثل تهديداً لحياة أبنائهم، لكن على الأقل نستطيع القول إن التوعية وارتفاع نسبة التعليم والوعي ساهما في مساعدة الناس على اتخاذ القرار الصحيح وإن كان على حساب ارتباطهم العاطفي أو القرابة العائلية. لكم أن تتخيلوا أن تكلفة علاج الأطفال المصابين بأمراض وراثية نتجت عن زواج الأقارب هي 6.5 مليار ريال سنوياً، وأن أكثر من نصف هذا المبلغ يمكن توفيره من خلال خطة عمل لدراسة الجينات السعودية، والتعرف على العطب الذي ينتقل من جيل لآخر.
هذه مقدمة للتعريف بما بات يعرف باسم «مشروع الجينوم السعودي». والجينوم مصطلح يقصد به محتوى الجينات في الكائن الحي. المشروع انطلقت فكرته عام 2013 من إدارة مركز الأبحاث بمستشفى الملك فيصل التخصصي، وهي الجهة الأكثر تأهيلاً من ناحية القدرة البشرية والعلاقات الدولية التي تمكنها من تنفيذ برنامج بهذه الضخامة. بدأ المشروع بتمويل من مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية قبل أن يصبح أحد أهم برامج التحول الوطني المدعومة من مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية السعودي مؤخراً. مشروع الجينوم البشري يقوم على أهداف واضحة بالغة الأهمية منها استخدام التقنيات العلمية والحاسوبية لتحديد الأساس الجيني للأمراض الوراثية في المملكة، وتطوير طرق تشخيصية سريعة ودقيقة ستغير من مستقبل الرعاية الصحية من حيث دقة التشخيص والتنبؤ بالأمراض قبل حصولها.
هذا يعني أن تكون لدينا قاعدة بيانات وراثية واسعة تتضمن توثيق مائة ألف جينوم في المجتمع السعودي، تتم دراستها والتعرف عليها وتسلسل تركيبها. هذه البيانات تعد في ذاتها ثروة وطنية من حيث قيمتها المعنوية حتى قبل استخداماتها الصحية، وسيكون للمشروع فرصه المستقبلية للتوسع وخدمة المنطقة العربية. والبرنامج اليوم يعمل بجدية لتطوير البنية التحية وتأهيل الكوادر الوطنية في أكثر من 10 مراكز بحثية في المملكة لتجميع العينات وتحليل البيانات.
هذا المشروع العظيم، الذي سيغير خريطة الرعاية الصحية في المملكة، يذكرني بفكرة قديمة نسبياً لم أكن موفقة بتقديمها للجهة المعنية الصحيحة في عام 2009، وهي جعل البصمة الوراثية أساساً للهوية الوطنية للمواطن والمقيم في المملكة، بالتزامن مع بصمة الإصبع، لكن الفكرة كانت أهدافها أمنية بحتة، باستخدام التقنيات العلمية لإنشاء قاعدة بيانات يمكن الاعتماد عليها في مسارح الجريمة حتى التي يتم إتلافها أو حرقها.
العالم يتقدم اليوم بسرعة هائلة تكنولوجياً وعلمياً، والتحدي الرئيسي هو اختصار الوقت وخفض النفقات. ومنذ أن اكتشف العالمان الفريدان جيمس واتسون، وفرنسيس كريك، التركيبة البنيوية للمادة الوراثية للإنسان في عام 1953، تغير مستقبل الطب والعلم البيولوجي، وكانت نقطة تحول لا تزال دول العالم حتى اليوم تتسابق لحصد مزايا هذا الاكتشاف المذهل، التي كان أعظمها أنه كشف لنا مخزن معلومات الإنسان داخل الخلية البشرية، وأقلها أنه منح العالمين نوبل للطب في 1962.
هذا ليس تحيزاً، ولكن مشروع الجينوم السعودي يتصدر اليوم أهم برامج التحول الوطني، ليس فقط لأنه يخدم الرعاية الصحية ويخفض الإنفاق، بل لأنه يجعلنا نشعر أننا نسير على خطى الكبار، الذين يفهمون ويقرأون العلم والعالم بشكل مختلف.

[email protected]