إميل أمين
كاتب مصري
TT

واشنطن... انتفاضة ضد الإرهاب

أظهر اجتماع واشنطن، الأربعاء الماضي، الذي شارك فيه وزراء خارجية 68 دولة، أن هناك توجهاً حقيقيّاً لدى إدارة الرئيس دونالد ترمب، لمواجهة الإرهاب، الذي بات ظاهرة عابرة للقارات.. توجُّه يكاد يضحى انتفاضة لوجيستية على الأرض، وآيديولوجية في مواجهة عقول تؤمن بحدود الإثم، ومراكز الشرّ، وقد جاء حادث لندن الأخير ليوضح للجميع أن للأفكار أجنحة، وأن الإرهاب لم يعد منظمات هيراركية تراتبية أو خلايا عنقودية من اليسير تتبعها أو مطاردة عناصرها.
في هذا السياق، يبقى «داعش»، الهدف الأكبر والأقرب للخلاص منه وهزيمته في المناطق العراقية والسورية التي لا يزال متمترساً بها، لا سيما الرقة في سوريا، وبقيته في الموصل.
يستلفت النظر في خطاب وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون، أنه كان على درجة عالية من الحزم والحسم، عطفاً على الفهم الشامل لأبعاد الأزمة، فالأمر بالنسبة له ليس معركة عسكرية يستعد لها الجميع بأكبر قوة هجومية من أجل القضاء على «داعش» إقليمياً من خلال الأدوات العسكرية والمعارك الحربية، لكنه معركة شاملة تستخدم فيها واشنطن آليات دبلوماسية وإعلامية تبدأ من تفعيل علاقاتها، من أجل تسهيل قنوات الحوار بين القيادات المحلية والشركاء في التحالف، مروراً بالعمل على إقامة مناطق آمنة مؤقتة، من خلال فرض وقف إطلاق النار فيها، للسماح للاجئين بالعودة إلى ديارهم، وصولاً إلى ما هو أهم وأبقى، أي قطع الطريق على «داعش» ومن لفَّ لفها، وهي تمضى لذرع بذور الكراهية ونشر الأفكار الراديكالية، وضمان أن تلك الجماعات الظلامية غير قادرة على كسب أو الحفاظ على موطئ قدم في مناطق جديدة حول العالم.
شدد الوزير تيلرسون على عدة مسائل في كلمته الافتتاحية في مؤتمر واشنطن، يمكن للمشاركين الاستفادة منها، فقد ركَّز على مسألة ضرورة محاربة «داعش» على الإنترنت بقوة تضاهي تلك المتَّبَعَة على الأرض، وفى هذا يلفت إلى قضية كارثية، أي انتشار الأفكار السوداء عبر وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، وهذه بحاجة إلى حرب قائمة بذاتها في العالم الافتراضي، وتقتضي مساهمة أميركية خاصة بوصفها صاحبة الباع الأكبر في عالم الإنترنت.
رؤية تيلرسون كذلك تتوقف عند إشكالية عميقة تمثل قمة الخطورة، وهي العائدون من مناطق هزيمة «داعش» إلى بلدانهم، سواء كانت عربية - إسلامية، أو أميركية - أوروبية، وكيف أنه لا بد من التخطيط الجيد حتى لا تكون عودتهم مشابهة للعائدين من أفغانستان أوائل التسعينات مع موجات الإرهاب التي نجمت عنهم.
ما الذي يختلف اليوم في واشنطن عن الأمس؟
عبر ثماني سنوات، تقاعست إدارة باراك أوباما عن الإقدام وخوض المعركة ضد الإرهاب دفعة واحدة، ولو كانت فعلت، لربما كان فصل قد انزوى وانقضى من فصول «مؤامرة الأشرار»، لكنه فضل القيادة من خلف الكواليس، لأغراض بعينها، ربما تكشفها الأيام القليلة المقبلة، والأحاديث دائرة اليوم في واشنطن عن دفعة جديدة من وثائق «ويكيليكس» ستثير فضائح وكوارث عن علاقة أوباما والديمقراطيين بما عرفه العالم والمنطقة العربية من تحالفات سرية طوال فترة إدارتيه.
على العكس من ذلك، بدأ دونالد ترمب، الذي يبدو أنه يعيد سيرة الرئيس رونالد ريغان، أي أنه لم يُرحَّب به أميركياً أو دولياً في بداية المشهد، ثم تبين للعالم أن ممثل هوليوود متوسط الشهرة، قد أضحى الرجل الأبيض الذي قدر له أن يفكك الاتحاد السوفياتي، ويدق المسامير في نعشه.
دونالد ترمب وفى أول خطاب له أمام الكونغرس الأميركي حدد عدوّ بلاده والعالم في كلمة واحدة (الإرهاب)، وأكد أنه رابط الجأش، قادر على اتخاذ قرارات مصيرية عندما يتعلق العالم بأمن وسلام الكون، و«داعش» عنده لا بد من تدميره، فهو «شبكة من الوحوش الخارجين عن القانون الذين يذبحون المسلمين والمسيحيين، الرجال والنساء والأطفال من كل الأديان والمعتقدات».
الفارق إذن بين أوباما وترمب، هو تحول جذري في سياسات أميركا العالمية والشرق أوسطية معاً.. إننا أمام بدايات لسياسة خارجية قائمة على الانخراط المباشر والقوي والجاد مع دول العالم كافة، مع تأكيده على احترام بلاده لـ«حق جميع الدول في رسم طريقها الخاص»، فترمب لا يؤمن بفلسفة «الرحيل الآن، تعني الآن»، كما فعل أوباما ذات مرة مع أوثق وألصق حليف لأميركا في العالم العربي عبر ثلاثة عقود في زمن الربيع العربي المكذوب.
مهمة الوزير تيلرسون والمجتمعين في واشنطن ثقيلة، إذ يحتاج الأمر بعد الخطة العسكرية الساحقة الماحقة للقضاء على «داعش» كتنظيم عسكري، إلى خطط، وليس إلى خطة واحدة، من أجل هزيمة الجماعات الإرهابية على الصعيد الفكري، وإظهار إفلاس عقيدتها، أمام عيون العالم، والهدف هو إبطال جاذبيتها في عيون المرشحين لأن يصبحوا مجندين جدداً، أولئك القابعين خلف شاشات الكومبيوتر في قارات الأرض الست.
إدارة الرئيس ترمب تواجه اليوم اختباراً جوهرياً من حلفائها، لجهة الانتقاء والمشاركة العميقة، وحال نجاحها في مثل هذا الاختبار، ستكون شراكتها مع العالمين العربي والإسلامي تحديداً أكثر معنى ومبنى وذات مغزى.