زياد عبد الرحمن السديري
رئيس مجلس إدارة "المركز السعودي للتحكيم التجاري".
TT

الإدارة الأميركية والقيود الدستورية... مجدداً

كتبت في مقال سابق («الشرق الأوسط»، الجمعة 24 فبراير/ شباط 2017 - العدد «13968») عن سياسات الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، فاستعرضت محاولته إحداث تغييرات كبيرة في السياسة الأميركية بقراره المنفرد، وتوقفت عند تساؤل أحد المراقبين حول ما إذا كان الرئيس ترمب هو الرجل الذي قد يغيّر مسار أميركا جذرياً، كما حدث ذلك في دول أخرى.
فنبّهت إلى الفارق بين دول الحزب الواحد أو الحاكم الفرد، والولايات المتحدة، من حيث إن تلك الدول تفتقر إلى مؤسسات الحكم الأخرى المستقلة المشاركة في السلطة، وإلى الإعلام الحر، والمجتمع المدني الفاعل، بينما الولايات المتحدة دولة تقوم فيها مؤسسات تشريعية وقضائية مستقلة، تتقاسم السلطات مع السلطة التنفيذية، وهي دولة تعلو فيها كلمة القانون، وتحكمها قواعد العمل الدستوري المستقرة، وينشط فيها الإعلام الحر، ويزدهر فيها المجتمع المدني الفاعل، وأشرت إلى بعض ما تحركت به هذه المؤسسات الدستورية والمدنية لمواجهة سياسات الرئيس ترمب، وختمت فدعوت القارئ إلى ترقّب ما عسى نتيجة هذا المشهد أن تكون.
والمشهد لا يزال في خضم حراك كبير، إلا أن بوادر الأحداث تشير إلى أن مؤسسات الحكم الأميركية - التي تتقاسم المسؤوليات مع السلطة التنفيذية - تمارس مهامها حقيقة، وتُخضِع الرئيس للقيود التي يفرضها الدستور والقانون عليه.
فبالنسبة إلى قرار الرئيس منع مواطني سبع دول إسلامية واللاجئين عموماً من دخول الولايات المتحدة لمدة تسعين يوماً، ومنع اللاجئين القادمين من سوريا إلى أمد غير محدد، ومنح أفضلية الهجرة إلى الولايات المتحدة للاجئين الذين ينتمون إلى الأقليات في الدول المذكورة - أي هم من غير المسلمين - حتى تتم مراجعة الإجراءات المنظِمة لذلك، والتأكد من كفايتها، أمرت محكمة فيدرالية إقليمية في ولاية واشنطن بوقف تنفيذ هذا القرار مؤقتاً، حتى تنظر في موضوع الدعوى المقامة التي طعنت في مشروعية قرار الرئيس، وفي مخالفته للقاعدة الدستورية الأميركية التي تحظر التفرقة على أساس الدين، ورفضت محكمة الاستئناف المختصة نقض قرار المحكمة الإقليمية بوقف تنفيذ القرار.
وقد اضطر الرئيس، على أثر حكم المحكمة الإقليمية وحكم محكمة الاستئناف، إلى إلغاء قراره الأول، وأصدر قراراً جديداً استجاب فيه إلى طلب وزارتي الخارجية والدفاع استثناء العراق من المنع، وحاول من خلاله تجاوز بعض المسائل القانونية والدستورية التي توقف عندها القضاء وأعاقت تنفيذ القرار الأول؛ فاستثنى من القرار الجديد مواطني الدول الست المسماة - وهي إيران وسوريا واليمن وليبيا والسودان والصومال - الذين يحملون رخصة الإقامة الدائمة في الولايات المتحدة، والآخرين منهم الذين يحملون تأشيرات دخول لأميركا، سبق إصدارها لهم، وجعل المنع على اللاجئين من سوريا لمدة تسعين يوماً عوضاً عن الأمد غير المحدد، وأزال الأفضلية بالهجرة المعطاة للأقليات.
ومرة أخرى تحرّكت القوى المؤثّرة في عدد من الولايات، بمن في ذلك المدعون العامون ومؤسسات المجتمع المدني، فطعنوا بشرعية القرار الجديد وقالوا بمخالفته للدستور، انطلاقاً من أن القرار الجديد لا يزال يقوم على منطق التفرقة في المعاملة على أساسٍ من الدين، مثلما قام عليه القرار الأول، واستجابت محكمة إقليمية فيدرالية في ولاية ماريلاند، وقبلها محكمة إقليمية فيدرالية في ولاية هاواي، فأصدرت المحكمتان أمرين مؤقتين بوقف تنفيذ القرار الجديد حتى تنظر المحكمتان في موضوع الدعوى أمامهما، بناء على توفر أساس معقول لنجاح الدعوى، وفي الوقت ذاته، إمكانية وقوع ضرر بالغ على المدعين، في حال تنفيذ القرار عليهم.
واستشهد القاضي الفيدرالي في ماريلاند بتصريحات الرئيس ترمب التي أطلقها على الملأ، أثناء حملته الانتخابية، ووعد فيها بفرض حظر على دخول المسلمين الولايات المتحدة، وقال القاضي إن هذه التصريحات تبيّن أن القرار كان يقوم على أساس من «العداء للمسلمين»، وأنه لا يعدو أن يكون وفاء بوعد الرئيس الذي أطلقه في حملته الانتخابية.
كذلك، كتب القاضي الفيدرالي في هاواي، فذكر أن «أي مراقبٍ منصف» سوف ينتهي إلى أن الهدف المعلن للرئيس ترمب، وهو حماية الأميركيين من الإرهاب، بزّه توق الرئيس إلى حظر دخول المسلمين الولايات المتحدة، وأنه لا يسع المحكمة تجاهل ما صرح به الرئيس سابقاً، بشأن حظر دخول المسلمين أميركا.
وبالنسبة إلى المتداول عن وجود علاقة بين حملة الرئيس ترمب الانتخابية ومسؤولين حكوميين روس، وعن التنسيق بين الطرفين في ذلك؛ فاللجان المختصة في الكونغرس الأميركي بشقّيه، مجلس العموم ومجلس الشيوخ، تنظر الآن في هذا الموضوع، كذلك تصدّت بعض لجان الكونغرس للتهمة التي أطلقها الرئيس دونالد ترمب بأن الرئيس السابق باراك أوباما أمر بمراقبة اتصالات الأول الهاتفية، أثناء حملته الانتخابية، فطلبت اللجان من الرئيس ترمب تزويدها بالدليل على وقوع التنصت المذكور، وطلبت من السلطات الأمنية المختصة إفادتها عن صحة وقوع التنصّت، وتكلم رؤساء اللجان المذكورة مؤخراً، فأشاروا إلى عدم تلقّيهم ما يؤكد صحة التهمة التي أطلقها الرئيس ترمب.
لا شك أن ما نطالعه الآن، ما هو إلا المشهد الأول من دراما تدور أحداثها في الساحة السياسية الأميركية في عهد رئيسها الجديد، إلا أن الحراك الذي نشهده يشير إلى أن القضاء الأميركي يقوم بوظيفته المرجعية، فيحدّ من تجاوزات الرئيس على القانون والدستور، ويضطر الرئيس إلى الانصياع لحكم القضاء.
كما يبدو أن الكونغرس يقوم بوظيفته الرقابية، فينظر فيما يستوجب المساءلة ويكشف عنه، ولا يستطيع الرئيس تعطيل هذه الوظيفة أو الإفلات من تبعاتها عليه.
وفي الوقت ذاته، تبدو قطاعات كبيرة من المجتمع الأميركي حريصة على تأكيد التزامها بقيمٍ بدا في السابق وكأن أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001 قد ألقت بظلالها على بعض مفرداتها، وهي القيم التي أسهمت في أن يكون لأميركا المركز الريادي الذي احتلته بين الدول، وفي النجاح الكبير الذي وصلت إليه في مختلف الميادين. وهذا كله يشير إلى أن دولة المؤسسات - مثل الولايات المتحدة - ربما تملك من المقوّمات ما يُسهم في حفظ الاستقرار فيها، ويحول دون حدوث ما قد يحدث في سواها من تجاوزات، لا تعود بالخير على البلاد وأهلها.