سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

أمر ملكي يُلخص درس الزيارة

جولة من نوع ما قام بها خادم الحرمين الشريفين في منطقة جنوب شرقي آسيا، تقول: إن شيئاً في كل عاصمة شملتها الزيارة، كان يخصها دون سائر العواصم، ثم يميزها بالضرورة... شيء لافت إلى درجة دفعت الملك سلمان بن عبد العزيز، لشد الرحال إلى هناك، بنفسه، مستطلعاً، ومستكشفاً، وراغباً في أن يربط بين المنطقة بكاملها، وبين الرياض، برباط جديد.
إن في إندونيسيا أكبر عدد من المواطنين يسكنون بلداً مسلماً، ولا بد أن الدرس فيها هو على النحو التالي: كيف استطاعت الحكومة الإندونيسية أن تتعامل مع هذا العدد، الذي هو الأكبر من نوعه، بالصورة التي تجعل منه إضافة للبلد، ولاقتصاده، بدلاً من أن يمثل عبئاً عليه؟!... كيف... هذا هو السؤال... أما جوابه، فأظن أنه درس الزيارة المستفاد، ضمن دروس أخرى طبعاً.
وفي ماليزيا نهض البلد دون أن يراهن على دولار واحد يأتيه، اقتراضاً من الخارج، ودون حتى أن ينتظره، وعندما عرضوا على مهاتير محمد في أيامه، قروضاً تتدفق من البنك الدولي مرة، ومن الصندوق، مرة، سأل عما إذا كانت روشتة علاج اقتصاد بلده في الحالتين، حالة البنك وحالة الصندوق، مضمونة النتائج؟!... وجاء الجواب يقول ما معناه، إن البنك يقدم القرض، ليتوقف دوره عند هذا الحد، وكذلك الصندوق، وأن أسباب نجاح العلاج تبقى كلها، لا بعضها، في يد البلد، وفي يد حكومته... ولم يأخذ مهاتير وقتاً ليفكر، ولكنه فكر وقرر سريعاً، وتصرف على طريقة الشاعر العربي القديم الذي صاح في حالة مماثلة على مستواه، فقال: فدعني أبادرها بما ملكت يدي!
يدي أنا، لا يد غيري في البنك، ولا في الصندوق... هكذا تصرف باني النهضة في كوالالمبور... وهكذا كان لسان حاله وهو يبني الاقتصاد الماليزي، وقد بادر بشيئين أساسيين؛ أولهما: أنه أدخل تعديلاً على التوقيت في البلاد، بحيث يجعل الماليزي يصل عمله مع مطلع الشمس، أو قبل مطلعها، لا بعد ذلك، وثانيهما: أنه جعل التعليم أمام عينيه، إنفاقاً عاماً، واهتماماً!... وفي سنوات لم تتجاوز الثمانينات والتسعينات، من القرن الماضي، كانت ماليزيا على الصورة التي قرر خادم الحرمين أن يقترب منها ليراها أكثر!
وفي طوكيو أذكر أني زرتها في مارس (آذار) 2012، وأني سألت مسؤولاً في الخارجية اليابانية رأيته في العاصمة، عما إذا كان اليابانيون يتضايقون من أن تكون الصين قد سابقتهم، فسبقتهم، واحتلت المركز الاقتصادي الثاني، عالمياً، بعد الولايات المتحدة!... أجاب الرجل: طبعاً ضايقنا هذا، غير أن العبرة بالنهايات، لأننا نسعى لأن نسترد مكانة اقتصادنا التي كانت له، ونعتبر أن ما حدث أمر مؤقت، وأننا عائدون وقادمون!
لم أصدق وأنا أسمع هذا الكلام منه، أن البلد الذي يتحدث عنه الرجل، هو البلد نفسه الذي تلقى قنبلتين نوويتين في عام 1945، فالمنظر في هيروشيما التي تلقت القنبلة الأولى، وفي ناغازاكي التي تلقت الثانية، كان يقول وقتها إن هذا بلد لن تقوم له قائمة مرة ثانية... هناك سر لا بد، وهذا السر هو الإرادة!
وفي بكين لا يتوقف الطموح الاقتصادي عند سقف، ولا يرضيهم أن يكونوا الاقتصاد الثاني بعد الاقتصاد الأميركي، ولا أن يكونوا قد تجاوزوا اليابان بهذه السرعة، ولكنهم يعملون بينما عيونهم على المركز الأول، ويضعون لبلوغ الهدف حداً زمنياً، ولا يقبلون أن يفلت الحد من أيديهم، ولا أن يتوه الهدف من أمام العيون!
والمتصور أن الملك سلمان أراد أن يقف على الأرض التي صنعت اقتصاداً، بهذا الحجم، وأن يتطلع من فوقها إلى اقتصاد المملكة ليرى كيف يمكن أن يفيد ويستفيد، ولماذا لا، والدولتان شريكتان في مجموعة العشرين، التي تضم أكبر عشرين اقتصاداً في العالم؟!
غير أن هناك سراً أعلى، يجمع العواصم الأربع معاً، وهو ليس سراً بالمعنى الكامل للكلمة، ولكنه أساس للنهضة فيها كلها، أكثر منه سراً... إنه الإنسان الذي جرى بناؤه على نحو ما يجب أن تبني الدولة إنسانها في هذا العصر... الإنسان الذي نال حظه من التعليم، فأعطى بلده، ولا يزال يعطي!
ولم يشأ الملك سلمان أن يُضيع وقته، ولا وقت بلده، عندما رأى حقيقة كهذه ماثلة أمامه في العواصم التي زارها كلها، فكان في كل واحدة منها، يُصدر أمراً ملكياً بإلحاق الطلبة والطالبات السعوديين، الذين يدرسون على حسابهم الخاص، بالبعثة التعليمية، ضمن برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي.
وفي العاصمة الصينية التقى الملك سلمان مجموعة من الطلبة السعوديين المبتعثين للدراسة في جامعات الصين، فقال الآتي: الحمد لله أنا أرى في كل مكان من العالم، من أبنائنا مَنْ يدرس، ومن يتعلم، وفي الماضي كان أحدهم إذا جاءه خطاب، يبحث عن إمام مسجد ليقرأ له الخطاب، الآن يحمل أبناؤنا وبناتنا أعلى الشهادات.
كان قرار إلحاق الطلبة والطالبات، الذين يدرسون على نفقتهم، ببرنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث في الخارج، قاسماً مشتركاً أعظم تقريباً، من جاكرتا، إلى كوالالمبور، إلى طوكيو، إلى بكين، وكان قراراً يقول إن الضيف الزائر لما سمع عن اقتصاد كل بلد ذهب إليه، كان يكتشف منذ اللحظة الأولى، أن صانع هذا الاقتصاد، أو ذاك، هو الإنسان أولاً، وعاشراً، وأنه لا يصنعه من فراغ، ولا بالكلام، وإنما بإعداد جيد يخضع له في مدرسته، وفي جامعته.
الزيارة تضيف جسراً بين اقتصاد السعودية، وبين اقتصاد كل عاصمة كانت موضوعة على جدولها، ولكن قرار البعثات الذي كان أمراً ملكياً، لا مجرد قرار إداري، إنما جاء في كل حالاته، ليؤسس لجسر من نوع آخر بين الرياض، وبين عصر لا بديل عن العيش فيه!