زاهي حواس
عالم آثار مصري وخبير متخصص بها، له اكتشافات أثرية كثيرة. شغل منصب وزير دولة لشؤون الآثار. متحصل على دبلوم في علم المصريات من جامعة القاهرة. نال درجة الماجستير في علم المصريات والآثار السورية الفلسطينية عام 1983، والدكتوراه في علم المصريات عام 1987. يكتب عموداً أسبوعياً في «الشرق الأوسط» حول الآثار في المنطقة.
TT

علوم الإحصاء عند الفراعنة

يكمن سر استمرار حضارة الفراعنة على مدى ثلاثة آلاف سنة في ظاهرة حضارية لم تتكرر إلى الآن مع أي من الحضارات الإنسانية الأخرى إلى عدة عوامل من المهم التعريف بها؛ بل ودراستها وتحليلها لكي نفهم وبشكل منطقي كيف نجح الفراعنة؟ من أول أسباب الاستمرارية بلا شك طبيعة مصر! صحراء غنية بالموارد الطبيعية من أحجار متنوعة ومعادن أهمها الذهب؛ يشق تلك الصحراء نهر خير يفيض بالنماء كل عام؛ جعل من ضفتيه جنة مليئة بالحياة؛ يعيش فيها شعب يتحدث لغة واحدة وله عادات وتقاليد ومعتقدات واحدة. كانت الصحراء هي الحماية الطبيعية لمصر شرقاً وغرباً؛ وكان البحر المتوسط مانعاً مائياً صعب تجاوزه تليه أحراش الدلتا المخيفة يسكنها ثعابين وعقارب وحيوانات مفترسة. أما الجنوب فهذا النهر الجميل لم يبخل وهو آتٍ من أعماق الجنوب أن يحمي مصر بموانع طبيعية تسمى الشلالات، وهي صخور جرانيتية عملاقة تعترض المجرى المائي وتتسبب في وجود تيارات شديدة الاندفاع خطرة الاختراق.
هذه الأرض الخيّرة وفرت ليس فقط خيرات الأرض والنهر والبحر، بل نشرت الأمن والأمان في كل مصر التي يحسدها أعداؤها. بالطبع لم تكن العوامل الطبيعية سالفة الذكر هي فقط سبب استمرارية الحضارة المصرية، والسبب في ذلك معروف بالطبع؛ وهو وجود كثير من الأراضي المشابهة لمصر ولكن لم نسمع عن قيام حضارة فيها! إذن الموضوع يتوقف على البشر وقدرتهم على بناء الحضارة. هنا نجد الشعب المصري وقدراته الإبداعية تتجلى في دراسة وبحث كل إمكانيات الدولة المصرية منذ فجر تاريخها؛ ودراسة كيفية تحقيق أقصى استفادة من تلك الموارد. لقد كان الشعب المصري عبقرياً عندما وضع الأسس العلمية الأولى لما نسميه حالياً بعلم الإحصاء، الذي يعني بالمعنى المجرد للكلمة التعداد. وبالفعل كانت عبقرية المصري القديم تتجلى في نظامه الإداري المبني على توافر المعلومات الدقيقة. لقد أحصى الفراعنة كل شيء موجود في الأراضي المصرية من سكان ومواشٍ وطيور وحبوب إلى آخره، كما أحصى الأراضي الزراعية وثبت ملكيتها وأحصى مستوى مياه النهر ومدى ارتفاعها في ذروة الفيضان، وعلى أساسها يتم وضع نظام ضريبي محكم.
كان التعداد يتم في مصر كل عامين، وأحياناً كل عام إذا سنح الوقت لإجرائه تحت إشراف الوزراء وكبار الموظفين لاعتماد أعمال الجرد والإحصاء. وكانت هناك عقوبات صارمة تتبع في حالات التهرب الضريبي... ونرى على جدران المقابر مناظر محاكمة المتهربين من دفع الضرائب بل وضربهم بالعصا كنوع من العقاب. لقد كانت أعمال الإحصاء لا تتوقف في مصر إلا في أعوام الضعف والمحتل الأجنبي... ولكن ومع كل نهضة كانت تعود مرة أخرى من أجل خلق قواعد بيانات تساعد الجهاز الإداري للدولة المصرية في اتخاذ القرار وتنفيذه.
ومن أجمل مناظر الإحصاء تلك التي نجدها في مقابر سقارة من الدولة القديمة؛ وكذلك ماكيتات تعداد الماشية من مقابر الدولة الوسطى وأشهرهم جميعاً مقبرة مكت رع. وفي عصر الدولة الحديثة والعصر المتأخر صارت مناظر الإحصاء والتعداد من المناظر المهمة على جدران المقابر والتي تصور حتى أعمال تعداد الهدايا المهداة إلى فرعون؛ وتعداد الجند وأسلحتهم.