محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

«الانحياز السلبي» للعقل البشري

حينما يقدم الطفل كشف درجاته إلى والديه ليبشرهما بحصوله على الامتياز في كل مواده، يترك ولي الأمر ذلك الإنجاز المشرف كله لينهال على ابنه بوابل من التوبيخ بسبب حصوله على جيد أو جيد جداً في مادة واحدة! والأغرب أن هذا ما يحدث مع الكبار أنفسهم، فحينما يعدد المدير لأحد مرؤوسيه تسعة بنود في تقويم الأداء السنوي توجت حصوله على مكافأة نهاية العام (البونص) ثم يذكره بتقصيره في بند الالتزام بالحضور المبكر صباحاً، فإن تلك الجزئية النقدية البسيطة قد تعكر مزاج الموظف وينسى أنه أبلى بلاءً حسناً استحق معه تلك المكافأة.
هذا ليس أمراً وهمياً، بل ظاهرة يسميها العلماء «الانحياز السلبي» لعقولنا Negativity bias ومن أبرز علمائها البروفسور هانسون وكانوس. وهي ظاهرة تبرز حينما يسيطر على عقولنا أفكار أو مواقف أو كلمات سلبية وننسى ركام الأحداث التي بثت في نفوسنا الفرح السرور. والأسوأ ما جاء به العلماء حينما أظهروا أن الإنسان بطبيعته يحتاج نحو ثلاثة أحداث إيجابية ليمحو أثر موقف سلبي واحد أي بنسبة (1:3). وفي العلاقات الاجتماعية رأَبُ الصَّدْع أصعب؛ إذ نحتاج إلى خمسة تصرفات أو مبادرات إيجابية علنا نسهم في محو تداعيات أمر واحد مما اقترفته أيدينا أو ألسنتنا؛ بنسبة 1:5. وهذا دليل على أن الانحياز السلبي للإنسان يكون مرتفعاً حينما يسيء إليه أصدقاء أو أقرباء أو زملاء عمل لطالما كان يكن لهم وشائج من التقدير والاحترام والمودة. وأرى أنه لو تعمق الباحثون في تأثير الإساءة أو التجريح على النساء أو الفتيات فسيكون التأثير أضعاف ما يقع على معشر الرجال. ألم يقل المصطفى صلى الله عليه وسلم «ولا تقبح» أي المرأة لشدة رقتها؛ حيث تخدشها نظرات التجاهل، ناهيك بنظرات التعنيف ونبراته.
مشكلتنا مع الانحياز السلبي أننا لا نستوعب أن البشر جبلوا على ملاحظة الأمور السلبية أو الشر بكل درجاته، حتى يحمي المرء نفسه من المخاطر المحدقة به، لا أن ينغمس في أتون السلبية. فإذا شاهد المرء حيواناً متفرساً أو شخصاً حاملاً لسلاح يتربص به، فإنه سيفر منه أو يواجهه بما يكفي نفسه شره. وهذه الفطرة مهمة لحماية الجنس البشري وليست أمراً يجب أن يهيمن على تفكيرنا. ولو أن كل امرئ قدم الانحياز السلبي على الأمور الواقعية لأصبحت حياتنا جحيماً لا يطاق. فالانحياز السلبي يصبح مشروعاً في حالة اعتباره خياراً يجب الاستعداد له، مثلما تستعد المؤسسات والدول وفرق العمل للسيناريو الأسوأ لوضع طرق التعامل معه.
وفي مجالس الإدارة مثلاً نضع تصورات لثلاثة سيناريوهات محتملة لأدائنا المالي أو مشروعنا الجديد، أحدها «السيناريو الأسوأ» لنحسن مواجهته.
وهذا هو الفارق بين من «يستعين» بالسلبية لمواجهة نوائب الدهر وبين من يختار دوماً «الانحياز السلبي» في كل شيء فيصبح سوداوياً طارداً... مُر المعشر.
[email protected]