سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

مليارات تنتظر الأفكار

لا شيء ينمو كما «الشركات الناشئة» التي تعتمد «اقتصاد المعرفة» في لبنان. الأرقام التي كشف عنها مؤتمر «عرب نت» الأسبوع الماضي، تثلج الصدر. من حسن الحظ أن ثمة دائماً بصيص أمل. ومقابل الانكسارات المتوالية، هناك ما يشدك إلى فوق. ستة آلاف فرصة عمل وفرتها 800 شركة ناشئة، في لبنان، وحققت مدخولاً وصل إلى المليار دولار. ليس المصرف المركزي بمفرده من يمول رغم أنه الداعم الأول. البنوك الأخرى مشاركة والمستثمرون كثر، والمليارات، نعم المليارات (ليس ثمة أي خطأ مطبعي)، تنتظر أصحاب الأفكار العرب، وما يقارب مائة مستثمر متحمسون للمجال. السوق واعدة، والأفق مفتوح مع التكنولوجيا وبفضلها. الشبان العرب الصغار، أصحاب الأفكار الجديدة التي نحتاجها، لتصبح حياتنا أكثر ذكاء، هم من يُسقطون تدريجياً حدوداً جغرافية ناضلت أجيال قبلهم لتذليلها دون أن تفلح، وما ازدادت الأرض إلا تمزقاً والأحلام إلا اسوداداً.
يكفي أن يجلس ثلاثة شبان في غرفة أمام أجهزتهم، وأن يمتلكوا فكرة مبتكرة وبنية ذهنية وثّابة ليطلقوا مشروعاً بمقدوره أن يتخطى بلدهم الصغير ويصبح بأسرع من الضوء عربياً، وربما أبعد. الشابة اللبنانية هلا لبكي ابتكرت تطبيق «شهية» لوصفات الطعام، بتمويل يقارب نصف مليون دولار. وبعد أن صار للتطبيق ثلاثة ملايين زائر شهرياً، 90 في المائة منهم من النساء، ثلثهن من السعوديات، أثار شهية شركة «كوك باد» اليابانية، واستحوذت عليه بمبلغ 13.5 مليون دولار. كل يريد لابتكاره أن يكون ذا جدوى، لأكبر عدد ممكن من المستخدمين، غير آبه بالآيديولوجيات الضيقة، وحسابات السياسة وضغائنها العابرة..
24 مليار دولار خلال عام 2015 في منطقتنا دفعت «أونلاين»، ويتوقع أن يرتفع المبلغ ثلاثة أضعاف، في السنوات الخمس المقبلة. أمر يجعل الاهتمام العربي بتعزيز أعمال البنوك إنترنتياً أولوية قصوى لمواكبة الموجة. ويحلم اللبنانيون بأن يكونوا رواداً في الابتكارات البنكية الرقمية. من يقرأون جيداً المتغيرات المتسارعة، بدأوا يتخذون استعداداتهم كي لا يتخلفوا عن الركب. الشعبويون والعنصريون، المدافعون عن تشييد الجدران وبناء الحواجز، سيشعرون بالإفلاس، لحظة تكتشف الجموع المؤيدة لهم، أنهم يسيرون عكس حركة التاريخ وأمواجه العاتية.
الاقتصادي الأميركي الشهير، جوزيف شومبيتر في كتابيه «الدورة الاقتصادية» و«تاريخ التحليل الاقتصادي»، فهم باكراً، منذ مطلع القرن العشرين، أن كل موجة إنتاج جديدة تدمّر آلاف الوظائف وفرص العمل قبل أن يبدأ بزوغ نمط آخر من الأعمال والمهن. هذا ما حدث مع بدء الثورة الصناعية الأولى وتشغيل الآلات بالبخار، وهو ما تكرر كلما حلّت ثورة إنتاجية مختلفة بأدوات مغايرة.
وكي يحدث الانتقال بأقل التكاليف، فإن أمرين لا بد أن يتوفرا؛ سوق عمل مرنة وحيوية قابلة للتأقلم، ومدارس قادرة على بناء كفاءات بشرية مسلحة بمهارات تناسب زمنها ومتطلباته. فهل تخرّج مدارسنا وجامعاتنا طلاباً على مستوى التحدّي؟ وأي جريمة ترتكب بحقهم حين تصبح شهاداتهم حبراً على ورق، لا تجدي بأكثر من تعليقها على حائط؟
نسجّل إنجازات في عالم «اقتصاد المعرفة» في لبنان والأردن ومصر والخليج العربي، لكن المخاوف كثيرة أيضاً. وللمحافظة على الخط البياني التكنولوجي منطلقاً صعوداً، يحتاج النظام التعليمي إلى إعادة نظر شاملة تتيح الخروج من التلقين إلى أساليب تشحذ الذهن وتقدح شرارة الفكر. المستوى العربي التعليمي يتدنى بنسب مخيفة. عدد الأميين يتزايد في بعض البلدان بسبب مآسي الاضطرابات. بناء المستقبل يحتاج إلى أدمغة نشطة، وأساتذة يشجعون المبادرة والتفاعل المتواصلين.
هناك دول اليوم بدأت البحث في تشريعات لمحاكمة الروبوتات. كيف يمكن التعامل مع سيارة من دون سائق تتسبب في حادث؟ هل يحاكم إنسان آلي قتل شخصاً بالخطأ أو تسبب له بأضرار وكيف؟ أسئلة مطروحة بجدية أمام مشرعين يقومون بواجباتهم تجاه مواطنيهم. لا داعي للحديث عن نوعية القوانين التي لا تزال موضع جدال في البرلمانات العربية، فبعضها يعود إلى عصور سحيقة. وفي بلد مثل لبنان يعجز النواب عن إلغاء قانون يبيح زواج القاصر.
الدورة الاقتصادية الجديدة التي يتحدث عنها شومبيتر تستدعي استنفاراً تربوياً، لأن المدرسة هي المكان الذي منه تنطلق موجات العاملين، لتضخ الدماء في عروق القضاء والسياسة كما التجارة. الحياة كل مترابط، وفكّ عرى الصلات بين الاختصاصات، سرعان ما سقط أمام الحاجة ليتنفس كل علم من الآخر، والمعرفة من غيرها، بحيث أصبحت التفاعلية شرطاً للبقاء والاستمرار.
فرنسا تبكي نظامها التعليمي ويشتكي أكاديميوها لأن سنغافورة سبقتهم إلى ما هو أكثر ديناميكية. بعثات مستطلعة تتوافد إلى فنلندا، التي قفزت بنتائجها التعليمية في زمن قياسي لتتصدر الدول الأكثر نجاحاً. بريطانيا تلجأ إلى الصين لتحسين تعليم مادة الرياضيات الذي يبدو أن هذه الأخيرة تفوقت به وأبدعت، وهو في صلب التطور التكنولوجي وسره الدفين. لا ركون ولا سكون في فترة حرجة من تاريخ إنسانية تعرف أنها ذاهبة إلى ما لا يستطيع دارسو «علم المستقبليات» توقع مفاجآته.
تحقيق إنجازات مرحلية، لبنانياً أو عربياً، لا يعني أن القاطرة انطلقت وبمقدورنا الاحتفال. المؤشرات الإيجابية تبقى بمثابة النجم المضيء الذي يفترض أن يدل إلى الطريق. فمقابل نخبة قليلة، تسعى لربط المواطن مع طبيبه، والفرّان، وسائق التاكسي، ومصمم الحفلات، والحلاق، والبقال ببرامج ذكية، تجعل الحصول على ما يريد رهن كبسة زر، لا يزال بسبب الظلم الاجتماعي هناك من ينام خاوي الأمعاء، ويقف على باب الزعيم ليحصل على دواء، ويتزايد عدد الدول التي تخسر نعمة الكهرباء.
ربح جولة لا يعني أننا سنكسب الحرب، لكنه يؤكد أن النكبة ليست قدراً، والهزيمة تكافح بالمعرفة لا بالغضب والثأر وجزّ الرؤوس.