نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني
TT

احتلال آخر

للإعلام الإسرائيلي سطوة مسلّم بها عند الفلسطينيين على مختلف اجتهاداتهم وانتماءاتهم، ولا أخال إعلامًا فلسطينيًا أو عربيًا أو عالميًا، يوازي الإعلام الإسرائيلي في التأثير وفرض مواضيع النقاش.
وإذا ما رغب فلسطيني في الاطلاع على مزيد من المعلومات والتحليلات، فما لا يجده في إعلامه يجده في إعلام إسرائيل، وإذا ما راجعت الصحافة الفلسطينية، فإنك تجد ترجمات المقالات العبرية تحتل مكانة مميزة، بل هي الأكثر قراءة وتداولاً بين الفلسطينيين، وإذا ما قررت إسرائيل جذب اهتمام الفلسطينيين نحو قضايا داخلية، فأكثر من قناة تلفزيونية تتولى هذا الأمر، فلديها مخزون من المعلومات ما يوفر حين إذاعته انشدادًا شعبيًا لما يقال، وغالبًا ما يُصدّق ويُبنى عليه، وحتى أبسط أشكال الخلافات الداخلية بين فصيل وفصيل، وبين الفصيل الواحد، فله مكان الصدارة في الأخبار والتحليلات، حتى أنك تلمس الصدى فيما يتناقله الفلسطينيون في صالوناتهم ومنتدياتهم، كأنّ ما يقدمه الإعلام الإسرائيلي هو الوقود اليومي للحوار على كل مستوياته.
وحين تفشّت ظاهرة الإعلام الإلكتروني، فتحت إسرائيل قنوات اتصال كثيرة مع المواطنين الفلسطينيين مباشرة، حتى أنّ موقع الإدارة المدنية يطلب من متابعيه، وهم كثر على أي حال، أن يوافوه بمعلومات عن حياتهم، وأن لا يترددوا في طلب خدمات تبدأ بتصريح دخول إلى إسرائيل، ولا تنتهي عند إقامة منطقة صناعية.
الإعلام الإسرائيلي ليس عبقريًا، ولا صاحب عصا سحرية، وسر سطوته يكمن في الفراغات القاتلة التي يحدثها غالبًا ضعف الإعلام المواجه له، والاقتصاد غير المبرر في تقديم المعلومات للمواطنين، فيما يخص حياتهم ويلامس اهتماماتهم، فأمام الإعلام الإسرائيلي أبواب دخول مفتوحة على مصاريعها، ولا أغالي لو اعتبرت ذلك احتلالاً أعمق وأقوى تأثيرًا من الاحتلال العسكري وحتى الاستيطاني، بكل ما لديهما من ثقل وقدرة على إلحاق الأذى بآدمية الفلسطينيين، والحيز الضيق للحياة العادية في زمن الاحتلال، ذلك أن الاحتلال العسكري المتجسد بالدبابات والرشاشات والحواجز والمحاكم والسجون، وجد له الفلسطينيون علاجًا هو الرفض والمقاومة، ومن هذه الزاوية فإن الاحتلال المباشر العسكري والاستيطاني يفرض على الفلسطينيين التوحد، أمّا احتلال الوعي والتفكير وفرض أجندات الحوار الداخلي فهذا هو الخطر بعينه، وحتى الآن ورغم مرور عقود على الاحتلال، ورغم تفاقم أذاه على الفلسطينيين وحياتهم وحتى أحلامهم، فإن الجهد الذي ينبغي أن يبذل لمواجهة الاحتلال الأعمق يبدو ضئيلاً ومشتتًا وغير فعّال، مع أن الطريق للنجاح في ذلك واضح المعالم ويكاد يكون من البديهيات، فلماذا لا يقدم الإعلام الفلسطيني المعلومات عن السلبي بحجمه ووصفات علاجه، قبل أن يلتقطه الإسرائيلي ليضعه كما يريد وبأحجام يختارها في أجنداته ووسائل تأثيره على الوعي الفلسطيني، فمن يمتلك المعلومة الصحيحة يمتلك بداهة التحليل والخلاصات الصحيحة.
كإعلامي أشعر بالغيرة، وربما أقول بالخجل من هذه الحقيقة وضعف توجهنا في معالجتها. في زمن الإعلام المفتوح وسهولة الوصول إلى منابره المؤثرة ينبغي أن لا يكون ذلك معضلة بالنسبة لنا، ولكني أرى المعضلة في التستر والتكتم والخجل من الخطأ، فما دامت هذه العناصر تتحكم في إعلامنا، فستظل أبوابنا مشرعة أمام الإعلام الآخر الذي أصفه بكل موضوعية بالاحتلال الأعمق.