خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

استقالة بوسطجي

الحروب الأهلية تعج بالمآسي والمشاكل والهموم، كذا كان الحال في أوروبا خلال حرب الثلاثين عامًا وكما تشهده سوريا الآن، وعرفته الولايات المتحدة خلال الحرب بين الشمال والجنوب. ولكن ما إن تنتهي هذه الحرب ويتصالح المتنافسون حتى تحل روح الفرفشة والأنس، والطرب والفكاهة في أرجاء البلاد. هكذا نأمل لسوريا. وقد عمت مثل هذه الروح في أميركا بعد انتهاء حربها الأهلية في القرن التاسع عشر. شاعت روح الطرب والفكاهة في سائر مدنها وظهر شتى الهزليين والكوميديين. وتبارت الدول الأوروبية في ترجمة أعمالهم ونقلها. كان من هؤلاء بل ناي الذي نفض يديه من عمله الكئيب كمأمور بريد وبوسطجي. وما إن وضعت الحرب أوزارها حتى انتقل إلى دنيا الفكاهة والسخرية. قدم استقالته بهذا النص الذي أضحك الملايين:
السيد رئيس الولايات المتحدة
سيدي أرجو أن تسمحوا لي الآن بتقديم استقالتي رسميًا كبوسطجي وأعيد لمقامكم بكل إجلال واحترام الختم العظيم لدائرة البريد ومفتاح باب الدائرة بالأرقام السرية للخزانة وهي 33، 66، 99. يؤسفني أنني لا أتذكر أيها يأتي أولا، وكم مرة ينبغي عليك أن تدير مقبض القفل وفي أي اتجاه لتفتح الطريق لعملها كخزانة.
هناك بعض أسهم المناجم على الرف لم أستطع بيعها ولا التخلص منها. لك أن تأخذها إذا شئت. لقد قررت أن أشتري حصانًا بدلا من ذلك، بالنظر لأن الحصان أرق شكلا من الخزانة وأقل كلفة من الأسهم.
وعندما أستعرض تاريخ حياتي كبوسطجي في هذه الدائرة، أجد الكثير مما يدعوني لشكر الله وحمده. لقد تسلمتها كسلعة خاسرة ولم تسدد حتى تكاليفها ولكنني بالتعاون مع الرؤساء والمديرين استطعت أن أجعل الخدمات البريدية خدمات رابحة بحيث استطعت أن أخفض كلفة إيراد الرسالة من ثلاثة سنتات إلى سنتين فقط.
وبناء على نصيحة الجنرال هاتن أزحت اللحاف الريشي من المكان الذي وضعه سلفي المستر ديكن كغطاء لسد الشباك واستبدلت الزجاج به، علما بأنني لم أجد في تعليمات دائرة البريد ما يحول دون ذلك ويشترط تغطية الشباك باللحاف. وقد نقلت هذا اللحاف إلى ساحة عامة وأحرقته فيها كدمية من عمل الشيطان. وقد أثار ذلك سلفي المستر ديكن فرشح نفسه قاضيًا على المدينة وممثلا للحزب الديمقراطي لينتقم مني ويعاقبني.
سيدي رئيس الجمهورية، لا أستطيع أن أختم رسالتي دون شكركم وشكر السادة الوزراء في واشنطن على تفهمكم المخلص في ذلك الشأن مما يجعلني أشعر بعظيم الأسى على مفارقتكم. لقد كافحنا معًا شهرًا تلو شهر دون أن ننتظر أي شيء غير راتبنا الذي حدده القانون. ولكننا وصلنا نهاية الدرب ولا بد لي أن أودعكم وحكومتكم الموقرة.
ستجدون المفتاح تحت الحصيرة. ولا تنس أن تخرج القطة من المكتب عند منتصف الليل أو إغلاق الباب. إذا لم تخرج بإرادتها فما عليك غير أن ترمي خاتم البريد عليها.
الدموع عاجزة يا سيدي عن تخفيف ألم فراقكم. ها أنا أعود مواطنًا بسيطًا دون منصب في الدولة.