سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

حكاية حديقتين

اختار الكاتب المصري محمد المخزنجي لنفسه صحافة السفر في البلدان، ولعله تأثر في ذلك، فيمن تأثر، بأعمال أنيس منصور، الذي أتقن فنون الأسفار كما أتقن كل كتابة أخرى. وقد بذل المخزنجي وقتًا وجهدًا وخوضًا في سبيل البحث عن مادته في أنحاء الأرض، قاصدًا الأماكن المجهولة عند معظم الناس، مغامرًا في المجاهل، كما كان يفعل مصطفى محمود.
في كتابه «جنوبًا وشرقًا.. رحلات ورؤى»، مشاهدات وذكريات تمتد من تركيا إلى اللاوس، ومن الهند إلى زيمبابوي. وفي كل هذا الترحال، تتقدمه العين الحافظة والملاحظة المتمهلة. ويشبه الكتاب في مجموعه شريطًا وثائقيًا مصورًا انتقى صاحبه ما يستحق الاستبقاء في ذاكرة الفضول البشري.
فهو يلاحظ، مثلاً، أن المحال لا تفتح أبوابها في مدينة حارة مثل دلهي قبل العاشرة صباحًا، ثم تغلقها عند الظهر، فرصة القيلولة، وتعود فتغلقها نهاية الدوام في السابعة مساء. وإذ يتجول في المدينة، يكتشف أن الناس تعيش في الحدائق «إقامة كاملة، تبدأ من توسد العشب عند النوم، وتصل إلى حد الاستحمام بالسراويل، وغسل الملابس عند مجمَّع صنابير الحديقة، ويتخذون من أغصان الأشجار مناشر لتجفيف ثيابهم القليلة. ثم هناك المقاهي في ظل الأشجار وعلى الأرصفة، وفي بعض الزوايا ملاعب للأطفال تُستخدم فيها دروع من ألواح الخشب وكرة من خرق القماش».
وفي الطرف الآخر من الحديقة، يبرز تقدم الهند في التكنولوجيا: كشك بسيط، تجري منه اتصالاً هاتفيًا إلى أي مكان في العالم، بأرخص الأسعار. وفي المرة التالية، ترى المخزنجي على دراجة هوائية يجوب شوارع العاصمة الصينية، بكين. لكنّ حدائقها غير حدائق دلهي. إنها مليئة فقط بالزهور وبالمتقاعدين الذين لا يزالون يرتدون «ثوب ماو» الشهير، كأنهم لم يتبلغوا التغيير الذي طرأ على الصين. وتمتلئ الأرصفة أيضًا بمطاعم القماش التي يمر بها الألوف، لكنها تُقام وتُزال في سرعة مُذهلة، وكأن لا مطاعم ولا زبائن ولا عجائن صينية مسلوقة.
وفي مطار هانوي الدولي، يلاحظ رحالتنا أن المطار محاط بالمزارع والأبقار التي ترعى. لكنه لو هبط اليوم في مطار زيوريخ، أحد أهم المطارات الدولية، لرأى المشهد نفسه، بقطعان لا يزعجها كثيرًا الهدير ومواعيد الرحلات. لكن هانوي تقدم له شيئًا مختلفًا: مدينة فيها عشرون بحيرة، وفيها الضريح الزجاجي الذي يضم جثمان هوشي مِنه، الزعيم الذي هزم الفرنسيين والأميركيين.