سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

أميركا تطرد الأدمغة الذكية

«النخبة التكنولوجية» الأميركية غاضبة من سياسات ترمب، لا بل هي الأكثر استشاطة والأسرع تأثرًا، بقرارات الحدّ من الهجرة، وتتحسب من صعوبة الآتي. 15 في المائة من موظفي «فيسبوك» مهددون بالترحيل. 49 موظفًا من «أمازون» من الدول السبع المغضوب عليها. غالبية شركات «وادي السليكون» الناشئة ساهم أجانب في تأسيسها أو ممولة من الخارج. ثلثا المديرين التنفيذيين آسيويون، إذا صدقنا مستشار ترمب الاستراتيجي ستيف بانون، الذي يسعى لتغيير الوقائع لأن بلده «هو أكثر من اقتصاد، إنه مجتمع مدني». وعملاً بالمبدأ الجديد فإن التوظيف «للأميركيين أولاً»، وتشغيل وافدين، ولو كانوا فحولاً، لم يعد موضع ترحيب.
الشركات الذكية العملاقة، حققت نجاحاتها الباهرة، بفضل اصطياد عباقرة العالم والاستفادة من أخيلتهم ومهاراتهم، بصرف النظر عن جنسية أو لون أو انتماء. هؤلاء سحرهم «الحلم الأميركي» وما يتيحه من رحابة وانفتاح، وفرص لمن يحسن انتهازها. فجأة بدأ الحلم يتحول إلى كابوس ثقيل. هناك خطط لإيقاف تسهيلات إجازات العمل، التي كانت تمنح لموظفي الشركات التكنولوجية بصفتهم أصحاب كفاءات استثنائية. مخاوف أيضًا من ضغط يمارس على هذه الشركات لإعادة مصانعها إلى أميركا، وهو ما سيرفع تكاليفها، أو ترضخ لضرائب إضافية، وهو ما يعيدها إلى النتيجة عينها. أمر يضع النخبة الأغنى والأكثر سطوة وتأثيرًا في مواجهة مع البيت الأبيض غير مسبوقة.
ترمب يشرع الأبواب على منازلات قاسية مع أصحاب المليارات، من «ميكروسوفت» بيل غيتس أغنى رجل في العالم بثروة 89 مليار دولار، إلى «فيسبوك» زوكربيرغ، و«أمازون» جيف بيزوس، ومؤسسي «غوغل» وعشرات الإمبراطوريات الضخمة المنشغلة ببناء عوالم افتراضية، لكنها تزن على الأرض وتؤثر في المعمورة.
أقصى ما يعرفه ترمب عن التكنولوجيا، على ما يبدو، هو التغريد على «تويتر» واستفزاز متابعيه وجرّهم إلى التباغض، وإلا لما طرح، أثناء حملته الانتخابية، إمكانية إغلاق جزء من شبكة الإنترنت كإجراء أمني احترازي. اقتراح أشعل جنون أحد الخبراء في كاليفورنيا، الذي وصف الفكرة، بأنها تنمّ عن «جهل تام»، واعدًا بجمع أكبر عدد من التوقيعات للوصول إلى استقلال الولاية.
ألفا موظف من شركة «غوغل» الأم نزلوا إلى الشارع للتظاهر ضد قرارات ترمب. الشركة العملاقة تبرعت بمليوني دولار لجمعيات تهتم بمن يطالهم قرار الهجرة الظالم، وخصصت «ليفت» مليونًا آخر للدفاع عنهم أمام المحاكم. «إيربانب» تبرعت بمساكن لإيوائهم. رئيس «نيتفليكس» الشهيرة وصف سياسات الرئيس بأنها «معادية للبلاد».
التحركات لا تزال في أولها. شركات التكنولوجيا توقع رسالة مفتوحة توجه إلى ترمب تخبره فيها، أنها تتفهم مخاوفه، وتقترح عليه الاستفادة من خبراتها لتنظيم هجرة تدعم القيم الأميركية، خاصة أن بعض موظفيها مهددون بالتسفير. حركة جديدة تتشكل تحت اسم «تكنولوجيا ضد ترمب»، دعت للتظاهر في الشوارع الشهر المقبل.
سبق للرئيس أن استقبل مسؤولي هذه الشركات في برجه الشهير ووعدهم خيرًا، لكنه ما إن أقسم اليمين، حتى تبخرت تطميناته المعسولة. فهل يفي غدًا بما كان قد نكث به الشهر الماضي؟ شخصية الرجل الصلبة والعنيدة تعطي انطباعًا بأنه مستمر فيما رسمه ولن يتوقف إلا مرغمًا. هذا ما يقوله قارئو الخطوط حين يحللون إمضاءه الطويل والشهير، برؤوسه الكثيرة المسننة الحادة.
كان ثمة أمنية عند العاملين على المبتكرات الذكية، كتبت عنه إحدى المجلات عام 2014، بأن ينقل وادي السليكون إلى جزيرة عائمة مقابل شواطئ كاليفورنيا، لتتخفف تلك النخب من كل ما يربطها بتعقيدات السلطة الإدارية والضرائبية. واقع الحال يسير عكس المأمول. جاء ترمب على النقيض من جماعات الاختراعات المستقبلية التي بنت مشروعاتها على قاعدة التواصل والتشبيك، وهدم الحواجز، وإقامة عالم خال من الحدود. إنها يوتوبيا «العولمة» بما تكتنزه من قيم التبادل وتوليد الأفكار بالتفاعل وخصب الالتقاء. نخبة ترى في توظيف الأقليات نصرًا وتلميعًا لصورتها الإنسانية في عيون مستخدميها متعددي الجنسيات، وفي تشجيع انخراط النساء تكنولوجيًا قضية تناضل لأجلها حد البحث عنهن ودعوتهن للقبول بالوظيفة. هي صورة عالم الغد كما يراها أناس تجاوزوا ما يشغل ترمب من عشرات السنين، وذهبوا أبعد من يومهم. من ستيف جوبس السوري الأب، إلى مؤسس موقع «إي - باي» الإيراني بيار أوميديار، والشريك في ابتكار «أيبود» اللبناني طوني فاضل، وأمثالهم من المهاجرين، ليسوا جميعهم مما يحلو لذائقة تؤمن بالانعزال تقدير عبقرياتهم.
قوة «وادي السليكون» متأتية من وجود المفكرين المجددين في مكان جغرافي واحد، يسمح بتثاقف وتخصيب للرؤى. التكنولوجيا،ليست عملاً فرديًا، إنما جهد جماعي تكاملي خلاّق. وهو ما أدركه جيدًا الكنديون، ورئيس وزرائهم النبيه جوستن ترودو.
أما وأن قريحة ترمب قد تفتقت عن رغبة بطرد الأدمغة، فثمة من التقط الفرصة ليختطفهم. وسارع أكثر من 150 مدير شركة تكنولوجية كندية إلى توجيه خطاب للحكومة بعنوان «اختلافنا يصنع قوتنا» يحثها على منح المطرودين من رحمة أميركا فيزا خاصة، تمكنهم من العمل، للمساهمة في إنعاش الشركات المبتدئة في مجال الابتكارات، وتحسين صورة البلاد ونتاجها.
من العسير التنبؤ إلى أين يقود ترمب أميركا والعالم. بعض غرائبياته قد تكون انعكاساتها إيجابية على بلاده وعلينا، كأن تعود إلينا أدمغتنا المهاجرة، أو يسعى متمولون إلى فتح شركات ناشئة في مدن لها كفاءاتها البشرية كبيروت وعمّان والقاهرة وبرشلونة ولشبونة، بعد أن تغلق الولايات المتحدة أبوابها دونهم. لكن ما هو أكيد وجلي أن التفريط في الأذكياء والنبهاء، في هذا الزمن التنافسي الحاد، هو قمة في الغباء.