خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

من خوالد الأمثال

الأمثال الخالدة عديدة، وإلا لما أصبحت أمثالاً يلوكها الناس. ويخطر في بالي أن من أكثر هذه الخوالد التي شاعت في سائر البلدان العربية قول الحجاج بن يوسف الثقفي للعراقيين عندما ولاه الخليفة ولاية العراق. نعم، بالذات يا سيدي. حدسك صحيح. إنه «أنا ابن جلا». قاله الحجاج من باب التبجح والتهديد والتحذير:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا
متى أضع العمامة تعرفوني
وهو استعمال غريب في نحوه وصرفه؛ فالمضاف إليه عند العرب يكون اسمًا وليس فعلاً، كما في هذه الحالة (ابن جلا). وتقديره أن المتكلم قد جلا الأمور وكشفها.
وكما قلتُ يعود القول للحجاج عندما خاطب العراقيين في مسجد الكوفة، وهددهم باستعمال الشدة معهم.
استشهد به الوالي، وشاع بين الناس من باب التبجح بالمعرفة والخبرة، وهي ظاهرة شائعة في عالمنا العربي. تسمعهم في لبنان يقولون: «بيعرف البحر كم كيلة والدهر كم ليلة». ويقولون في الجنوب العربي: «لا يفوته هارب ولا يلحقه طالب». وأيضًا «بيقرا الخط المطموس». ونقول في العراق: «يقرا الممحي والظاهر». وهو ما ردده العقيد فاضل عباس المهداوي، رئيس محكمة الشعب في عهد عبد الكريم قاسم. وغناه من قبل المنولوجيست عزيز علي. ويقولون في منطقة الخليج: «فلان يفهمها وهي طايرة». وفي المملكة العربية السعودية يقول القائل في وصف من يعرف كل شيء: «شابت محاقبه».
ولكننا جميعًا دأبنا على استعارة قول الحجاج: «أنا ابن جلا». وكان هو بدوره قد استعار القول من سحيم بن وثيل الرياحي ليؤكد على ثقته بنفسه وسعة معرفته ومقدرته. وهي وسيلة نفسية معروفة تساعد القائل على مغالبة المصاعب والمتاعب. هكذا قال الشاعر الروماني، فرجل: «إنهم يستطيعون لأنهم يعتقدون أنهم يستطيعون».
وهذه هي القاعدة السائدة فيما يسمى بالحروب النفسية والتعبئة الوطنية. عبر عنها الناقد الإنجليزي ويليام هزليت في قوله: «إذا كنت تعتقد أنك ستنتصر فإنك ستنتصر. الإيمان عنصر ضروري للنصر». وكم أكد ذلك النازيون.
بالطبع، هذه القاعدة، ككل القواعد النفسية، ليست معصومة من الخطأ. حاول أحمد سعيد تسخيرها من إذاعة «صوت العرب» في أيام حرب 1967، وحاول صدام حسين أيضًا تسخيرها في حرب الكويت، وفشل كلاهما. ومن هنا أصبحنا نستعمل هذا المثل: «أنا ابن جلا» من باب السخرية. وهذا ميدان آخر للعديد من الأمثلة التي تحذر في الواقع من التمادي بالثقة بالنفس. وللإيرانيين مثل طريف في ذلك. يقولون: «بقدر ما يكبر راس الإنسان يكبر وجع راسه». ما أجدر بالكثير من رجالات الشرق الأوسط أن يكتبوا هذا المثل بخط الثلث، وفي لوحات مذهبة يعلقونها في صدر مكاتبهم وسياراتهم الفارهة.