نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني
TT

صراع على بقايا أوسلو

ليس صراعًا فلسطينيًا إسرائيليًا، بل صراع فلسطيني فلسطيني، كانت أبرز مؤشراته ذلك اللقاء الموسع الذي ضم جميع فصائل منظمة التحرير الفلسطينية العاملة والمستنكفة في بيروت. كان العنوان هو اللجنة التحضيرية للمجلس الوطني، وجاءت الخلاصة في اتجاه آخر، حين قرر المجتمعون التوجه إلى رئيس السلطة الوطنية محمود عباس، للشروع الفوري في مشاورات لتشكيل حكومة وحدة وطنية، يشارك فيها الجميع، مع أن الجميع قالوا في أوسلو وما نجم عنها أكثر مما قال مالك في الخمر.
الرئيس محمود عباس لن يصغي لهذا المطلب، فعنده حكومة تحمل اسم حكومة التوافق، وعند تشكيلها قبلت حركة حماس بدور مباشر في التشاور حول الأسماء والحقائب، وبالتالي فإن ما طالب به المجتمعون في بيروت لم يكن جديدًا، ولن يكون مؤثرًا في الوضع الداخلي الفلسطيني، الذي لا يعاني من قسمة الوزارات، بقدر ما يعاني من الكابوس المزدوج الذي يجثم على صدرهم وهو الاحتلال والانقسام.
اجتماع بيروت الذي تلاه اجتماع مماثل في موسكو وما نجم عنه من بيانات، قدم برهانًا ساطعًا بل ومدويًا، عن أزمة النظام السياسي الفلسطيني، وجوهر هذه الأزمة، هو ذلك التداخل بين النظام القديم الذي هو نظام منظمة التحرير، وبين النظام الجديد الذي أسسته اتفاقيات أوسلو، وبنيت عليه السلطة الوطنية التي ابتلعت موضوعيًا وفعليًا النظام القديم بكل مكوناته، مع بقاء الشرعية العليا في يد النظام القديم الذي ضعف حتى صارت هياكله وتسمياته مجرد عناوين رمزية.
الواقع الراهن في الحالة الفلسطينية، يعيش حالة صراع بين صيغتين لا مجال لانسجامهما أو اندماجهما في جسم جديد.
كانت صيغة أوسلو قد أسست لهذا النظام الجديد من خلال إنتاج مؤسسات حديثة، أساسها برلمان حديث يفرز حكومة ويصدر تشريعات تهم حياة الفلسطينيين في مرحلة الانتقال من الحكم الذاتي المحدود إلى الدولة، وحين جرت الانتخابات التشريعية في الضفة والقطاع، لم تنجح القيادة الفلسطينية في إيجاد صيغة تكامل بين النظام الجديد الذي تكرس داخل الوطن وبين النظام القديم الذي يمتلك شرعية قيادة وتمثيل الفلسطينيين في كل مكان يوجدون فيه، وبدل أن تكون منظمة التحرير، أي النظام القديم، ظهيرًا للجديد ومصدر قوة يؤمن قطع المرحلة بفاعلية نحو الدولة، انعدم التوازن بين الصيغتين وانقلب الميزان، بحيث صار النظام الجديد الذي أقيم على جزء من الشعب الفلسطيني، أقوى ألف مرة من منظمة التحرير التي يفترض أنها القائد الأعلى للنظام الجديد وأهله ولكل الفلسطينيين.
حين جرت الانتخابات الأولى فازت فتح بسبب عدم وجود منافس جدي لها في تلك الانتخابات، وأخفقت الفصائل التي شاركت في العملية الانتخابية في تجاوز نسبة الحسم المطلوبة ولم تحصل ولو على مقعد واحد، وبدل أن تكون هذه النتيجة حافزًا لتطوير صلة الفصائل بالجمهور، وتطوير وتفعيل مؤسسات الشرعية الأعلى (منظمة التحرير)، يئست الفصائل من استعادة أو تكوين عمق جماهيري لها، لتلوذ بمنظمة التحرير ونظامها الذي يعتمد «الكوتا» في اقتسام المواقع القيادية والأنفاق، بعيدا عن التجربة الانتخابية التي لا حصة للفصائل فيها.
بعد تهميش منظمة التحرير وفصائلها حد التلاشي، وقع الشارع الفلسطيني تحت تجاذب القوتين الأساسيتين فتح وحماس، وكلتاهما ليست فصيلاً، بل كل يعتبر نفسه حركة كاملة، وبينهما تناقضات تجعل اتحادهما أو انسجامهما أمرًا مستحيلاً. والتناقض بين الحركتين عقائدي وثقافي وبرامجي، فأدى ذلك إلى شكل خطير من أشكال الصراع على السلطة، للاستقواء بها وتعظيم رصيد السيطرة لكل منها.
أما الفصائل الأخرى التي تستظل بشرعية النظام القديم، فقد وقعت تحت طائلة التقاسم بين الحركتين الكبيرتين تحت عناوين متعددة، إلا أنها جميعًا وفي نهاية الأمر تشكل تبعية إلزامية لأصحاب النفوذ.
ونتيجة لهذا الوضع المتداخل والمتناقض والملتبس، وقف الجميع أخيرًا أمام حائط العجز عن إيجاد صيغة تحافظ على النظام الجديد الذي أسسته أوسلو والتحقت به حماس بعد تمنع لسنوات طويلة، وعجز آخر عن إحياء النظام القديم، أي نظام منظمة التحرير، والخلاصة دوامة يدور فيها الجميع داخل حلقة مفرغة، ولقد ظهر ذلك جليًا في اجتماعي بيروت وموسكو اللذين شارك فيهما الجميع دون أن يخرجوا بأي نتيجة.
في لقاء ضم شيوخ القبائل الفلسطينية مع وزير الخارجية الروسي لافروف، حذر الرجل الذي يجمع الفلسطينيون عليه كصديق، من استمرار الحالة الفلسطينية على ما هي عليه من انقسام وتشتت، وحفظًا لماء الوجه لم يجد المجتمعون في موسكو، إلا وعد الوزير الروسي بأنهم سيباشرون مشاورات تشكيل حكومة وحدة وطنية، والإعداد لانتخابات عامة، وحين عاد كل منهم إلى بيته نسوا كل ما كان.