حمد الماجد
كاتب سعودي وهو عضو مؤسس لـ«الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان السعودية». أستاذ التربية في «جامعة الإمام». عضو مجلس إدارة «مركز الملك عبد الله العالمي لحوار الأديان والثقافات». المدير العام السابق لـ«المركز الثقافي الإسلامي» في لندن. حاصل على الدكتوراه من جامعة «Hull» في بريطانيا. رئيس مجلس أمناء «مركز التراث الإسلامي البريطاني». رئيس تحرير سابق لمجلة «Islamic Quarterly» - لندن. سبق أن كتب في صحيفة «الوطن» السعودية، ومجلة «الثقافية» التي تصدر عن الملحقية الثقافية السعودية في لندن.
TT

الحكمة ضالة المؤمن حتى مع ترمب

في محطات حياة الرئيس الأميركي الجديد ما يستحق الوقوف عندها، وفي بعض تصرفاته وقراراته تتناثر بعض الحكم: «الحكيم» هو ذاته الذي ملأ الدنيا بضجيج مواقفه العرقية ومغامراته الرومانسية، ومع ذلك فهناك بعض الحكم المنثورة في مسيرة حياته تستحق التوقف عندها.
والد الرئيس الأميركي الجديد ترمب هو مَن وضع ابنه على أولى درجات السلم الذي صعد به إلى شغل أهم وظيفة على كوكب الأرض. اغتم والد الرئيس ورجل العقارات الناجح حين أسر له ابنه دونالد في شبابه برغبته في التخصص في السينما أو الفنون الجميلة أو الإعلام التلفزيوني، ورأى في ابنه اندفاعًا مستميتًا للشهرة وجذب الأضواء إليه، فسحبه نحو تخصص مختلف، علم الاقتصاد والتجارة، وأقرضه مليون دولار وقال له: يا بني بالمال تنشئ قناتك التلفزيونية، وتنطلق منها نحو الشهرة، خير لك من أن تنطلق في مشوارك نحو الشهرة عبر قناة يملكها غيرك ويملك معها القرار في استمرارك أو الاستغناء عنك، وهذا الذي حصل، فبنى إمبراطوريته المالية منطلقًا نحو مجد المال والإعلام والسياسة بخطوات قافزة حتى تربع على المنصب الأهم والأخطر عالميًا.
تصوروا ماذا سيكون حال دونالد ترمب لو أنه اتجه نحو الفنون الجميلة؟ إذن، هو والده الذي حول مجرى حياته ودفع به إلى قمة المجد. كم من الموهوبين والمبدعين خسرهم أهلوهم وأوطانهم بل والعالم، بسبب فقدان التوجيه في الوقت المناسب وفي المرحلة العمرية المناسبة، أعني اختيار التخصص العلمي والمهنة، وهو ما أشار إليه أحد الحكماء حين قال إن أكبر ثلاثة قرارات تحدد وجهة الإنسان ونجاحه في حياته هي: اختيار التخصص والزوجة والمهنة، فما لم يحصل على التوجيه والرأي الحصيف تاه بقية حياته، أو ظل في حياته هامشيًا لا يؤبه له لو حضر، ولا يفقد إذا غاب.
وفي دخول ترمب إلى عالم الإعلام عبرة، فقد حشر نفسه في عالم الأضواء في برنامج جماهيري ترفيهي في قناة «إن بي سي» الأميركية الشهيرة، ودفع للقناة مقابل البرنامج، وسخر منه من لا يفهم قواعد اللعبة الإعلامية، وهو في الحقيقة يبني اسمًا في عالم الإعلام التنافسي، حتى أوجد لبرنامجه قاعدة جماهيرية، وتسابقت شركات الدعاية للإعلان عن منتجاتها في ساعة بث برنامجه، فتحول من دافع للقناة إلى قابض منها وبشروطه، وهذا ما يفوت على الشباب الذين يميلون إلى الاستعجال في قطف الثمرة، ولو كان المردود محدودًا.
وصفة أخرى لترمب رجل الأعمال الناجح جعلته يدلف إلى عالم السياسة ويسحق أساطينها المعتقين، هي قدرته على تحويل ما يراه خصومه فيه سلبيًا «المثير للجدل» إلى عامل إيجابي جعله يمهد الطريق بها إلى الفوز بمنصب رئيس الدولة الأعظم في العالم. «المثير للجدل» لقب تنابزه كثير من خصومه الإعلاميين والسياسيين، ظنًا منهم أن حملته لانتخابه رئيسًا ستفشل تحت طرقات الاستهزاء والسخرية، والذي حدث هو العكس، فكل القضايا العنصرية والعرقية والدينية التي أثارت جدلاً كانت العتبات في سلم المجد السياسي، فجعل من حملات حساده ومنافسيه مزيدًا من شعبيته وجماهيريته. ومع خلافنا الشديد مع طروحاته الخطيرة، إلا أن الدرس المستفاد هو قوة العزيمة ورباطة الجأش ووضوح الموقف في سبيل تحقيق الهدف، وهو ما ينقص كثيرًا من الساسة والمثقفين الذين ينزعون إلى المكوث طويلاً في منطقة الوسط ومسك العصا من منتصفها، وهي مطلوبة لكن ليس إلى حد أن يبقى المثقف أو السياسي كالماء لا لون له ولا طعم ولا رائحة.