فاضل السلطاني
محرر الثقافة والكتب في «الشرق الأوسط» منذ عام 1997. نشر عدة كتب شعرية وترجمات. وفي الدراسات له «خمسون عاماً من الشعر البريطاني» و«الأرض اليباب وتناصها مع التراث الإنساني». وأصدر بالانجليزية «فيليب لاركن شاعراً منتمياً» و«ثلاثة شعراء محدثون». مُجاز في الآداب من جامعة بغداد، وحاصل على درجة الماجستير في الأدبين الأوروبي والأميركي من جامعة لندن.
TT

إبداع مؤجل

2011 سنة فارقة في التاريخ العربي المعاصر، كما كانت 1948، و1967 على سبيل المثال. ومهما اختلفنا في أسباب ومسار ومآل أحداثها، فإنها نهاية مرحلة، وبداية أخرى، إن لم يكن في الواقع، ففي الوجدان والذهن. شيء ما تشكل في الأعماق، واستوطنها ككل الأحداث الكبرى التي تفصل بين ما قبل وما بعد، حتى لو كانت هزائم مدوية... فالتاريخ لا تصنعه الانتصارات فقط. وربما يكون الدرس الأول الذي تعلمناه من «الربيع العربي» أن الإنسان هناك، الإنسان المهزوم، المسحوق، الصغير، وبسبب كل ذلك، هو قادر على اقتحام السماء.
كتبنا مرة أن الثيمة الكبرى التي ستهيمن على كل النتاج المعرفي العربي في القادم من الزمن ستنطلق من وعي هذه الحقيقة، التي قد لا تكون وضحت صورها بعد، ولكن هذه هي مهمة الأدب بالضبط، أن يكشف لنا ما لا نراه، ويستخرج ما تحت السطح إلى ضوء الشمس، مشكلا رؤانا ووعينا ووجداننا من جديد، وبالتالي يمنحنا ولادة جديدة... هذا هو الانعكاس الحقيقي للواقع والتاريخ والإنسان في الأدب، وهذا ليس مرتبطا بالزمن، بل بعملية الإبداع نفسها، التي لا تحكمها سوى قوانينها الخاصة.
في الأدب الإنساني هناك أعمال إبداعية كبيرة ولدت في قلب الحدث، وأخرى بعد مرور سنوات زمنية طويلة جدا. رواية «صمت البحر» لفيركور، مثلا، ولدت في أوج الاحتلال الهتلري لفرنسا. وكتب توماس مان واحدة من أفضل رواياته وهي «الخنوع» في أوج الصعود النازي في بلده ألمانيا، التي فككك فيها روائيا الآليات التي تؤدي إلى استلاب عقل ووجدان الجماهير عبر التضليل والكذب، وإن لم ينفع ذلك عبر القوة، حتى يستبطن الناس الخضوع، ويسكن في لاوعيهم مع مرور الزمن. أما معاصره وصديقه ستيفان زفايغ، فحلل هذا الخنوع فكريا في كتابه «كاستيلو ضد كالفن، أو ضمير ضد العنف»، الذي كتبه بعد ثلاث سنوات من تسلم النازيين الحكم عام 1933.
لكن ليو تولستوي لم يكتب روايته الكبرى «الحرب والسلام» التي تدور أحداثها في بداية القرن التاسع عشر، مع اجتياح القائد الفرنسي نابليون بونابرت الأراضي الروسية، إلا بعد سنوات طويلة جدا.
ومن المعروف، أن عبقرية بلزاك تكمن في قراءته العميقة لإيقاع واقع جديد كان يتشكل تحت السطح، ولا أحد يراه سوى عيني المبدع الحادتين، لا السياسيون ولا الاقتصاديون، فكتب عن صعود الطبقة البرجوازية الفتية وأفول طبقة النبلاء، رغم أن هذا الواقع كان ضد انتمائه الطبقي.
ولنأخذ ظاهرة أخرى ما تزال معاصرة لنا، وهي ظاهرة الديكتاتورية... كم عملا أدبيا عربيا تناول هذه الظاهرة، مفككا، فنيا وجماليا، آلياتها، ونشوءها، وويلاتها، وآثارها المدمرة على شعوبنا؟
إننا ما نزال نجد أنفسنا في أدب أميركا اللاتينية التي اكتوت، مثلنا، بظاهرة الديكتاتورية أكثر مما نجدنا في أعمالنا، ابتداء من «خريف البطريرك» للكولومبي غابريل غارسيا ماركيز، إلى رواية «حفلة التيس» للبيروفي ماريو بارغاس يوسا. فقليلة هي الأعمال العربية التي تتناول هذه الظاهرة وهي أكبر ظاهرة عرفناها في تاريخنا المعاصر، ربما إلى جانب الحرب.
وبالطبع، كتب كثير عن ظاهرة القمع ابتداء من عبد الرحمن منيف، ولكن معظمه كان أقرب إلى الشهادات المفجعة التي لم تنجح في تفكيك الآلية الرهيبة التي تنتجها، وتعريها أمام التاريخ.