د. حسن محمد صندقجي
طبيب سعودي واستشاري قلب للكبار بمركز الأمير سلطان للقلب في الرياض
TT

الاستفادة من المعلوم... تُجدي

ثمة طرق مختلفة في تقييم مدى التطور والتقدم في تقديم الرعاية الطبية، كما أن ثمة طرق مختلفة في تقييم مدى التطور والتقدم في إجراء البحوث والدراسات الطبية. ولكن من الضروري بالعموم أن يتلازم التقدم والتطور في إجراء البحوث والدراسات الطبية، مع التقدم والتطور في تقديم الرعاية الطبية والصحية، لأن الهدف من توسيع معرفة البشر بالجوانب الصحية والطبية هو الاستفادة منها بشكل تطبيقي في معالجة أمراض الناس وتخفيف أعبائها عليهم ووقايتهم منها، وهو ما يُقرأ على هيئة أرقام إحصائية تفيدنا بأن غالبية المُصابين بمرض ما يتم تشخيص تلك الإصابة به لديهم، وأن غالبيتهم يتلقون المعالجة وأن غالبيتهم تتم معالجتهم بشكل مفيد.
والمفارقة قد لا تظهر بوضوح للبعض حينما تكون مجالات التطور المطرد للدراسات الطبية والبحوث تتعلق بأمراض لا علاقة لها بالأمراض الأكثر انتشارًا أو شيوعًا، بل تظهر بشكل أوضح حينما تنشأ حالة من «الانفصام» فيما بين مجالات التطور المطرد للدراسات الطبية والبحوث عن مدى مضاعفات وتداعيات مرض ما وأحدث الأدوية لمعالجته، وبين واقع حال معالجة ذلك المرض في المجتمعات المختلفة. ووفق ما هو واقع اليوم في العالم، فإن ارتفاع ضغط الدم أحد الأمثلة على هذا.
إن «ماكينات» البحث العلمي العالمية لا تفتا كل يوم تطرح لنا مزيدًا من الدراسات الطبية حول مرض ارتفاع ضغط الدم وتأثيراته في أعضاء مختلفة بالجسم وحول أصناف شتى من الأدوية التي يتم اكتشاف تأثيراتها الإيجابية في معالجته. ومع ذلك تظل الحقائق حول معالجة ارتفاع ضغط الدم تتحدث بـ«لغة» وفي «واد» آخر، غير الذي تتحدث به ومنه تلك الدراسات والبحوث الطبية.
وضمن عدد العاشر من يناير (كانون الثاني) لمجلة رابطة الطب الأميركية Journal of the American Medical Association، نشر الباحثون من مؤسسة القياسات الطبية والتقييم بجامعة واشنطن في سياتل نتائج دراستهم معدلات الإصابة بارتفاع ضغط الدم في العالم. وفي دراستهم التحليلية الدولية، راجع الباحثون نتائج 844 دراسة طبية تم إجراؤها في 154 دولة في العالم خلال الفترة ما بين عام 1980 و2015، وشملت أكثر من تسعة ملايين شخص.
ولاحظ الباحثون في نتائجهم أن هناك ارتفاعًا في الإصابات بمرض ارتفاع ضغط الدم بين عامي 1990 و2015، وأضافوا أن هذا الارتفاع في هذه الإصابات يعني ارتفاعًا مرافقًا في أعداد الناس الذين يموتون سنويًا نتيجة للإصابة به، والذي يُسمى طبيا بـ«القاتل الصامت» Silent Killer. وذكر الباحثون أن الإصابات بهذا المرض بلغت نحو مليار إنسان، وأن هناك أكثر من 3.5 (ثلاثة فاصلة خمسة) مليار إنسان لديهم ارتفاع في قياسات ضغط الدم لهم بما يفوق الطبيعي ولكن لا يصل إلى حد تشخيص إصابتهم حاليًا بمرض ارتفاع ضغط الدم Prehypertension.
وعلق الدكتور كرستوفر ميوري، الباحث الرئيس في الدراسة ومدير المؤسسة المذكورة أعلاه، بقوله عبارات بسيطة: «مرض ارتفاع ضغط الدم من الأسباب الرئيسية للوفيات والإعاقات على مستوى العالم، وترتفع الإصابات به، والأمر يزداد سوءًا رغم أن الوقاية والمعالجة الفاعلة ممكنة عبر تغيرات في سلوكيات نمط عيش الحياة اليومية وعبر الكثير من الأدوية الفاعلة في معالجة ذلك الارتفاع». وأضاف الدكتور مارك كريغر، مدير مركز دارتماوث هيتشكوك للقلب والأوعية الدموية في نيوهامبشير، بالقول: «الإنسان لا يُصاب بارتفاع ضغط الدم بين ليلة وضحاها، بل إنه يتطور ببطء لديه وصولاً إلى الحالة المرضية لارتفاع ضغط الدم»، ما يعني أن ثمة فسحة للمرء يستطيع من خلالها هو والطبيب فعل الكثير للحيلولة دون تطور ارتفاع ضغط الدم إلى الحد المرضي لديه.
ومع هذا الانتشار الواسع لهذا المرض، ورغم تطور الدراسات الطبية حوله وتوفر الكثير من أنواع الأدوية لعلاجه، لا تزال «صحيفة الحقائق» Fact Sheet الصادرة عن المراكز الأميركية لمكافحة الأمراض واتقائها CDC تشير إلى حقائق بسيطة في عباراتها، وعصية جدًا في فهم كيفية حصولها، حول مرض ارتفاع ضغط الدم في الولايات المتحدة، ومنها أن واحدًا من بين كل ثلاثة بالغين لديه ارتفاع في قياسات ضغط الدم، وأن ارتفاع ضغط الدم كان السبب المباشر أو المرافق في نحو 410 آلاف وفاة في عام 2014، أي بمعدل 1100 وفاة يوميًا، ومع هذا فإن فقط نحو نصف مرضى ارتفاع ضغط الدم تتم معالجتهم وصولاً إلى ضبط الارتفاع في ضغط الدم لديهم، وأيضًا هناك نحو 20 في المائة من مرضى ارتفاع ضغط الدم لا يعلمون أن لديهم ذلك المرض.
ونحن هنا لا نتحدث عن مرض يتطلب لتشخيص الإصابة به أجهزة معقدة أو تحاليل متقدمة للدم أو أنواعا متطورة من التصوير بالأشعة، بل هو جهاز صغير يُمكنه قياس ضغط الدم في غضون أقل من دقيقة، ونتحدث عن مرض تتوفر لعلاجه أنواع شتى من الأدوية المفيدة جدًا، وحتى أنواع الأدوية التي مضى على اكتشافها عشرات السنين لا تزال مفيدة جدًا.
إن القليل مما نعلمه حول مرض ارتفاع ضغط الدم يكفي لمعالجة جزء كبير من مشكلة مرض ارتفاع ضغط الدم، وما نحتاج إلى تطبيقه هو خطوات بسيطة: إجراء قياس ضغط الدم لكل مريض يزور أي عيادة طبية، توضيح بسيط وبعبارات سهلة للمريض أن عليه التنبه لإصابته بارتفاع ضغط الدم، وتوضيح جدوى ممارسة الرياضة اليومية وخفض وزن الجسم والحرص على تناول الخضار والفواكه الطازجة بشكل يومي، وأهمية الحرص على تناول الدواء، وجدوى الحرص على المتابعة بشكل دوري لدي الطبيب. ولذا تظل الاستفادة من قليل «المعلوم طبيا» هي بالفعل خطوة مُجدية ومُفيدة.

* استشاري باطنية وقلب
مركز الأمير سلطان للقلب في الرياض
[email protected]