سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

مغادرة النفق

الفرصة سانحة أمام العهد الجديد في لبنان ليفتح أبواب الأمل، بعد خيبات طال أمدها. الملفات المعيشية العالقة ستنفجر، حتمًا، واحدها بعد الآخر. على رأسها جميعًا، ملف «النفايات» الشهير الذي وصلت العام الماضي، أصداؤه إلى أميركا، ولا يزال يراوح مكانه منذ سنة ونصف. لن يكون الموضوع الوحيد الملحّ على جدول كثيرة قضاياه وشائكة. كل المعضلات مؤجلة وحلولها كانت مؤقتة، لا بل موقوتة. لذلك تحديدًا، الحمل ثقيل ويحتاج من ينهض بأعبائه بشجاعة. أمام السياسيين الذين بلغت سمعتهم مبلغًا شديد السوء، أن يكفّروا عن أخطائهم، ويلمّعوا صورتهم قبيل الانتخابات، وأن يظهروا - على الأقل - للمواطنين المنهكين بأن بداية مختلفة قد حان وقتها.
لاح شيء من الرجاء، حين تدخّل القضاء بفاعلية غير مسبوقة، ليقفل مطمر «كوستا برافا» للنفايات، بعد أن تكاثرت أسراب النوارس فوقه، قريبًا من المطار، حتى صار هبوط الطائرات مهددًا وسلامة الركاب موضع خطر. القرار السريع الذي اتخذ، يوحي بأن أخيرًا، ثمة من يتفكر ويتدبر. بادرة خير، تحتاج استكمال الخطوات، لا الالتفاف عليها بالضغط والتعمية والتمويه. فكرة طمر النفايات قرب مدرجات المطار، رغم التحذيرات والاعتراضات، كانت خطيئة لا يرتكبها سوى حمقى أو لامبالين. ثمة تمادٍ في الاستخفاف ومبالغة في استسهال الانزلاق إلى الجحيم. يفترض اليوم، أن تتبدل المعالجة، أن يصغى بإخلاص لمن يملكون رؤية علمية لحل أزمة النفايات جذريًا. من المضحكات المبكيات، أن هناك من ما زال يقنعنا بأن آلات «الزعيق» التي تخيف النوارس، قد تجدي على المدى البعيد، أو أن تسميم الطيور أو اصطيادها أو كشها هي وسائل مجدية. من المعيب أيضًا، إيهام الناس بأن تلوث نهر الغدير القريب من المكان هو الذي يجتذب النوارس الجائعة. «غوغل» بات يعلّم كلّ من يفكّ الحرف أيها المستخفون بالعقول. البيئيون يشرحون ليل نهار أصل الداء ويصفون الدواء. الناشطون المدنيون مفتّحو العيون. إضاعة الوقت يفاقم كل معضلة. الكلام على مطامر تابعة لطوائف وزعامات، ومنافع انتخابية متوخاة من إغلاق مكبّ هنا، أو فتح مطمر هناك، أمر يدعو للإحساس بالعار. السّاسة الذين يغرّدون ببرود الثلج، ويركّبون نكاتًا سمجة، حول ما يمس صحة الناس وحياة أطفالهم، يوحون بأنهم عاطلون عن العمل، أكثر مما يثيرون الإعجاب.
ليس «الكوستا برافا» إلا عينة من سلسلة من المفاجآت التي ستداهم العهد الجديد، بسبب الترقيع النفعي، الذي ساد سنوات طوالاً خلت. ما ينتظره اللبنانيون، هو تحسن يومياتهم وتغير ملموس في حياتهم. ما عاد المواطن العادي الذي سلبت حقوقه، مهمومًا إذا ما كان الزعيم الفلاني ركب سيارة مصفحة أم نصف تصفيح أو فرز له عشرون عنصرًا للحماية بدلاً من ستين.
الفساد يكلّف الدولة بحسب وزير الاقتصاد والتجارة السابق آلان حكيم عشرة مليارات دولار في السنة. مبلغ يكفي لانتشال بلد صغير من عجز كبير وبسرعة. الفساد يهدم الثقة، يلوث سلوك البشر، يطرد الكفاءات إلى خارج البلاد. في كل وزارة ومؤسسة ودائرة، الهدر قائم. تكاد المخالفات تصبح نظامًا راسخًا. صحيح أن لبنان يشبه دولاً كثيرة حوله، وليس استثناء في خيبته، لكن أن يصل النمو إلى 1 في المائة هذا يعني أن المسؤولية تتجاوز سد مسارب السرقات إلى معالجة الأسباب واجتثاث المرض.
المهمة دونها عقاب، لكنها تستحق شرف المحاولة الصادقة. يسير ميشال عون، منذ انتخب رئيسًا للجمهورية، على حبل التوازنات الصعب، الذي يحتاج بهلوانًا في السيرك، كي ينجح في اجتيازه. الرجل الغضوب المتعجّل، أكسبته الخبرة حنكة والعمر حكمة والمنفى انفتاحًا، والمنصب رصانة. صار ينتقي كلماته كما لو أنه يزينها في ميزان «جواهرجي» بارع. يخرج من فخاخ الأسئلة بزئبقية لبقة. أي كلمة في غير موضعها قد تؤدي إلى منزلق. «بيّ الكل» أو «والد الجميع» كما يحلو لأنصاره أن يلقبوه، لا يريد عهدًا عابرًا في جمهورية متهالكة. رجاله يعدون بإصلاحات في العمق، وهذا يبعث على التفاؤل، لكنه لا يكفي. إن لم تكن استفادة سريعة وجراحية من «شهر العسل» السياسي الاستثنائي، الذي تعيشه الزعامات اللبنانية في ما بينها، فإن الانتظار، سيجعل المهمة غدًا، بعد أن تتلبد الأجواء، أصعب وأعقد.
نعم لكل شيء في بلاد الأرز طائفة: النفايات، الكهرباء، الإنترنت، وحتى المطار، والمرفأ، والجامعات. التحركات المدنية، يفترض أنها مناهضة للطائفية، مقاومة لأزلامها، مع ذلك تجد دائمًا، من يضفي عليها صبغة ترجعها إلى الدائرة المغلقة ذاتها. الطائفة تجرّ عنوة إلى حزب، وولاء لزعيم ورضوخ لعصبية الجموع وغضبتها، ومن ثمّ إلى محسوبيات وتناتش الحصص. في دراسة لـ«الدولية للمعلومات»، نكتشف أن الوزارات هي الأخرى لها طائفة ومذهب، وفي دراسة غيرها أن مصرفين لبنانيين فقط حققا أرباحًا صافية وصلت إلى 464 مليون دولار خلال تسعة أشهر من السنة الماضية، فيما أرقام الأمم المتحدة تظهر أن نصف اللبنانيين محتاجون، وأن عدد الفقراء ارتفع 61 في المائة في السنوات الأربع الأخيرة. الخلل عارم، والبلد يحتاج إعادة هيكلة، واتفاق سياسي على رؤية شاملة للإنقاذ. هذا مستعص قبل انتخابات لا يزال الاتفاق على القانون الذي ستجرى وفقه عالقًا. إصلاح النظام اللبناني، يشبه السؤال عن البيضة والدجاجة. هذا لا يعفي الرئيس الجديد والحكومة مهما قصر عمرها، من ضرب الحديد حاميًا. ميشال عون يؤمن بأنه رئيس بشعبية استثنائية، وهذا يحتم حزمًا وصلابة يستمدهما من رصيده لإرغام الجميع على اجتراح المعجزة.