بكر عويضة
صحافي فلسطيني بدأ احتراف الصحافة في ليبيا عام 1968 حيث عمل في صحيفة «الحقيقة» في بنغازي، ثم «البلاغ» و«الجهاد» في طرابلس. واكب صدور الصحافة العربية في بريطانيا منذ 1978 فعمل في صحيفة «العرب»، ثم مجلة «التضامن»، وبعدها جريدة العرب الدولية «الشرق الأوسط»، كما عمل مستشاراً لصحيفة «إيلاف» الإلكترونية.
TT

حلب خطيئة الغرب

هل أقصد أن الغرب كان يجب أن يكرر تطبيق سيناريو التدخل في العراق (2003) وليبيا (2011) على الأرض السورية، خلال الأسابيع أو الأشهر الأولى من اندلاع «ربيع» دمشق؟ بالتأكيد كلا، ثم إنني واحد من غير المقتنعين بصواب تدخل دول الغرب بشؤون غيرها من الشعوب، خصوصاً أن تجارب الميدان أثبتت غير مرة أن التدخل الغربي أثمر نقيض المأمول منه محلياً؛ حصل هذا تحديداً في العراق أولاً، ثم تلاه في ليبيا. إذن، لعل القصد هو خطأ الغرب عندما تردد في الحيلولة دون ترك الحبل على الغارب لنظام دمشق كي يضرب ويبطش بلا حساب. بلى، بل إن ذلك الخطأ تناسل فولد خطايا أوصلت إلى خطيئة حلب، التي سوف تدخل سجلات تأريخ أول عقدين في القرن الحادي والعشرين، باعتبار أنها استنساخ عصري لأبشع مجازر الحربين الأولى والثانية خلال القرن العشرين، إذ عندما يصل الأمر بالرجل أن يقرر قتل نساء أسرته حتى يحميهن من وحشية اغتصاب الجنود «المُحررين» حلب، فلا بدّ أن هناك طرفاً ما في العالم يتحمل مسؤولية الوصول إلى تلك الحالة.
حقاً، الواقع أن أطرافاً عدة تشترك في تحمل تلك المسؤولية، وفي مقدمها الغرب بزعامة أميركا الرئيس باراك أوباما. تفسير ذلك أن تردد أوباما وخذلان مجلس العموم البريطاني لرئيس الحكومة السابق، ديفيد كاميرون، في أغسطس (آب) 2013، أعطيا سيد قصر المهاجرين بدمشق، وكبار الأتباع المحيطين به، بالإضافة إلى أهل الحكم في طهران، الانطباع أن الاستمرار في أشد أنواع البطش ممكن، بما في ذلك استخدام سلاح كيماوي. تبع ذلك فتح أبواب سوريا من كل صوب لكل من هبّ باسم «جهاد»، وكل من دبّ بزعم «معارضة»، ثم من رحم تلك الفوضى وُلِدت «عاصمة» المدعو «الخليفة البغدادي» في الرقة، ومع ابتلاع الغول المُسمى «داعش» لمزيد من أرض سوريا والعراق، وأمام تردد البيت الأبيض كزعيم لدول الغرب، فاجأ قيصر روسيا الجميع فقامر بلعب «كارت» التدخل، ولمّا لم يرَ، ولم يسمع سوى إدانات وشجب واستنكار، انتهى الأمر إلى توحش الغارات على حلب وغيرها، لكن الشهباء كان عليها أن تدفع الثمن الأغلى، ولذلك أسباب كثيرة، إنما ليس هنا مجال التوسع في سردها.
التساؤل الآن هو: ماذا بعد كل تلك الفظائع؟ هل يستطيع السوريون جميعاً، من درعا إلى القامشلي، وليس فحسب أهل شرق حلب وغربها، إعادة بناء جسور الثقة والتوافق على أنهم أبناء بلد واحد؟ ربما، لكن الأمر سيتطلب زمناً ليس بالقصير؛ ذلك أن تصالح الشعوب بعدما تضع الحروب الداخلية أوزارها ليس هيّناً. يتضح ذلك عبر تجربة غير بلد عربي. التساؤل ذاته يمتد من دمار حلب إلى قلب القاهرة، المضرّج بدماء المصلين في الكنيسة البطرسية، حيث تعمّد نفرٌ من خوارج هذا العصر اختيار يوم ذكرى مولد المُرسَل رحمةً للعالمين، كي يشبعوا نهم الكره المستوطن أنفسهم، بسفك الدم. صحيح أن جريمة الأحد الماضي ليست الأولى، سابقاتها كثر، والأرجح أنها ليست آخرها، إنها جرائم حقد تُرتكب باسم محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو منها براء، إذ هو الذي تلقى القرآن الكريم الآمر المسلمين ألا يجادلوا أهل الكتاب إلا بالحُسنى، ومن ثمَّ أوصى النبي الأمين خيراً بالمؤمنين والمؤمنات من كل دين، فما بال أولئك القتلة مصرّين على إلحاق الأذى بالرسول المبين سراً وعلانية؟ أما المؤذون في السر فهم عقول تبرير التنطع وتسويغه، وأما المنفّذون لإرهاب القتل الأعمى فهم الجاهرون بإيذاء إسلام محمد.
إنما إلى متى؟ ذلك سؤال ليس بوسع أحد التكهن بجواب محدد له. لكن الغموض ليس يعفي حكماء العرب والمسلمين من الاجتهاد بنشاط وجدٍ وإخلاص لأجل وضع حد لفكر الغلو المؤثر على ضعفاء العقول في أوساط الجيل الشاب، ومن ثم تخليص البشر وإنقاذ البشرية من إخطبوط شر التطرف. الحق أن ذلك العمل النشط هو في حد ذاته إنفاذٌ لواجب أنيط ببني آدم وحواء، مذ بدء الخليقة، منذ واقعة الشقيقين قابيل وهابيل كما أوردها القرآن الكريم: «لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ». حقاً وصِدقاً وعَدلاً، طوبى لكل من خشي الله في عباده كافة، وبئس القوم من أعمى الحقد قلوبهم ضد الناس أجمعين، سواء بحلب، أو بأي أرض في مشارق الكوكب ومغاربه.