د. جبريل العبيدي
كاتب وباحث أكاديمي ليبي. أستاذ مشارك في جامعة بنغازي الليبية. مهتم بالكتابة في القضايا العربية والإسلامية، وكتب في الشأن السياسي الليبي والعربي في صحف عربية ومحلية؛ منها: جريدة «العرب» و«القدس العربي» و«الشرق الأوسط» اللندنية. صدرت له مجموعة كتب؛ منها: «رؤية الثورات العربية» عن «الدار المصرية اللبنانية»، و«الحقيقة المغيبة عن وزارة الثقافة الليبية»، و«ليبيا بين الفشل وأمل النهوض». وله مجموعة قصصية صدرت تحت عنوان «معاناة خديج»، وأخرى باسم «أيام دقيانوس».
TT

ماتروشكا الطغاة

هل ذهب طاغية وتكاثر طغاة جدد؟! على شاكلة اللعبة الروسية ماتروشكا التي هي عبارة عن دمية يوجد داخلها عدة دمى أخرى متماثلة في الشكل ولكن بأحجام أصغر فأصغر، بحيث إن الكبرى تحوي الأصغر منها... وهكذا، والتي قد تكون انعكاسًا وتوصيفًا مشهديًا، لتكاثر الطغاة الصغار من مريدي المنهج الديكتاتوري، مما قد يجعل من القذافي حيًا (مجازًا) في تصرفات البعض وكأن العقيد توزع إلى أحجام أصغر كتلك التي تتولد من داخل لعبة الجدة الماتروشكا، فلا يزال البعض يتصرف ضمن مربع الفساد والظلم والتعسف والتسلط والجهل، بالضبط كمنهجية الديكتاتور القذافي وهنا يتحول الطغيان من فرد إلى جماعة (بل كنتم قومًا طاغين).
فمن أشد أنواع الاستبداد، هو كما أشار إليه المفكر السياسي توكفيل، في تشخيصه لطغيان الأغلبية، فيما أطلق عليه الاستبداد الديمقراطي والاستبداد التشريعي، وقد تنتهي بديمومة الشرعية من بطانة السوء، فهل نحن أمام تكرار لمشهد أثينا عندما حكمها «الطغاة الثلاثون»، وهو اسم أطلق على حكومة أثينا، بعد أن استولى الإسبارطيون على الحكم فيها وطغى الظلم والاستبداد، ولعل من مقومات الفساد غياب حكومة قوية والاحتكار للسلطة ولو ضمن جماعة واحدة دون غيرها.
فليبيا اليوم في ظل التجاذبات وسياسة الاستقطاب وتدخل قوى خارجية أصبحت في خطر من جوانب عدة وطرق شتى، والبعض غير مدرك بل لا يزال مؤجرًا لعقله، كما يقولون، غارقًا في هوامش الأمور في ظل مؤتمر «وطني» طاب له المقام في الفنادق، ممعنًا في التجاهل للمشهد السياسي والحراك السياسي في الشارع.
ليبيا لا تسكن فندق ريكسوس (مقر إقامة المؤتمر الوطني المنتهي الولاية وحكومته)، إنما الفندق هو المقام على أرضها، ولو نظر أحدهم من نافذة غرفته لشاهد بأم عينيه أكواخ الليبيين على مرمى حجر من جناحه. فالليبيون لم يخرجوا على الظلم والاستبداد والتهميش والفوضى، ليستبدلوا بها أخرى تكون فيها الكلمة العليا لأحزاب كرتونية غير معلوم مصادر تمويلها، ولا توجد رقابة عليها، ولا وجود دستوريًا ينظم علاقاتها، أو ميليشيات مسلحة خارجة عن سلطة الدولة تمارس الخطف والقتل والاغتيال والنهب والابتزاز والاغتصاب، مما تسبب في سلب إرادة الشعب بطرق ديماغوغية في ظل حماية ميليشيات مسلحة، وزعماء حرب لا هم لهم سوى نهب المال العام، ونشر الرعب والفوضى، وترويع الآمنين بعد أن أغدقت عليها الأموال لتفسد ذمته (إذا أردت أن تفسد ثورة فأغرقها بالمال).
إن استمرار مثل هذا الوضع، وعرقلة بناء الدولة ومؤسسات الجيش والشرطة هو اغتيال للوطن، فليبيا بخير وستبقى، وليست في حاجة لمزيد من الإشاعات والفتن سواء التي يروجها ثوار الـ«فيسبوك»، أو صناع الفوضى، فيجب ألا يترك المفسدون يشعلون النيران بين الليبيين ورغم هذه الغصة، فهناك من الساسة اليوم في حاجة لإخراجه من المشهد السياسي. «فالديمقراطية ليست ثوبًا يخيطه السياسيون ليلبسه الشعب»، فالشعب أولاً، وعلى هؤلاء معرفة أنهم من دون هذا الشعب فلا وجود، ولا مكانة، ولا اعتبار سياسي لهم، فهم موظفون يديرون العملية السياسية لصالح الشعب، لا مستبدون في ثياب منتخبين، يتلونون بمجرد انتخابهم وفق معيار مصلحتهم، أو براغماتيون في هواهم، يسيرون وفق المصلحة والمنفعة الشخصية، ويركنون إلى الجانب الأنفع لهم، ولو كان ضارًا بمصلحة الوطن، ويسعون إلى كسب الشارع بغير الحقيقة بل أحيانا بالمؤامرة.
هذا النوع من الساسة المستبدين، هم من يجب أن ينتزعوا ويعزلوا من خريطة سياسة الوطن، وهم للأسف يتكاثرون ويزدادون، حتى أصبحت البلاد على شفا جرف هار.
أعتقد أنه لا مخرج لنا نحن الليبيين إلا أن يترك الجميع خلافهم السياسي الآيديولوجي واسترجاع عقولهم المستأجرة والوقوف في وجه ما يهددنا جميعًا وإلا سنخسر الوطن الذي نعيش فيه، فالوطن يعاني وفي حاجة للبناء والنهوض ونفض غبار الحرب، وتخطي مخاض «الثورة» إلى الدولة.