سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

كرة الثلج من النمسا

حتى النمسا خائفة من غدٍ أسود! صار الفقراء يحتاطون خشية أن يزداد عوزهم، ووصلت العدوى إلى الأغنياء، المرفهين، فباتوا يتحسبون من أن تضربهم الفاقة التي انقضّت على جيرانهم. حين يصبح الخوف محرّكًا رئيسيًا في انتخابات واحدة من أغنى الدول الأوروبية وأقواها اقتصادًا، لا عتب على من بلغت البطالة في بلدانهم أضعاف المحيطين بهم. وإذا كانت فرنسا مع ثلاثة ملايين ونصف مليون عاطل عن العمل تذهب صوب اليمين وتشطح، فإن اقتراب رئيس «حزب الحرية» اليميني المتطرف نوربرت هوفر من رئاسة جهورية النمسا، وطمعه بما هو أكبر في بلاد «شواروفسكي» التي تمكنت من تحويل الزجاج إلى ما يشبه الماس، يجعل من الظاهرة حالة متناسلة، يخشى أن تمتد إلى باقي الدول الأوروبية، لا بل هي تهدد بنية الاتحاد برمته.
نوربرت هوفر يلعب على وتر المهاجرين والخوف من الإسلام. قضية صارت مع معارضة السياسات المالية لمنطقة اليورو والوعود بتوفير فرص عمل، وصفة سحرية للشعبويين في كل مكان، للوصول إلى السلطة.
بعد شهر فقط من فوز دونالد ترامب المفاجئ برئاسة أميركا، وستة أشهر من خروج بريطانيا من البريكسيت، تسن أحزاب اليمين المتطرف أسنانها للانقضاض كليًا على اليسار، والتفوق على اليمين المعتدل، في سنة انتخابية قد تغير وجه القارة العجوز. في هولندا لم تزد محاكمة زعيم حزب «بي في في» المتشدد خيرت فلدرز، بتهمة التحريض على الكراهية، إلا شعبية. وتظهر نتائج الاستطلاعات الدورية، أن مقاعد حزبه في البرلمان قد ترتفع بفعل التعاطف الحماسي من 12 إلى 33 مقعدًا، خلال انتخابات عامة في الربيع المقبل؛ مما يجعل حزب فلدرز العنصري في المرتبة الأولى، في بلاد الزهور والطيور، رغم جلافة زعيمه وبشاعة شعاراته.
إذا وصل نوربرت هوفر في موطن هتلر إلى الرئاسة، ستكون سابقة أوروبية لليمين المتطرف الذي لم يستحوذ على السلطة في أي دولة أوروبية منذ الحرب العالمية الثانية، وهو أمر له ما بعده.
الضربات تتوالى على الاتحاد الأوروبي من كل جهة، ورئيسه جان كلود جونكر لا يريد أن يعير الأصوات المتعالية التي تعادي سياسات الاتحاد المالية والأمنية اهتمامًا، ويفضل أن يحتفظ بأعصاب باردة، وشيء من التفاؤل. يريد الرجل ألا يصدق وعود الأحزاب الشعبوية الصاعدة بقوة، في أكثر من بلد، لناخبيها باستفتاءات للخروج من الاتحاد، مفضلاً القول إن «الحملات الانتخابية أمر والواقع على الأرض شيء آخر». وتصل به الثقة بتماسك أوروبا إلى حد اعتبار أن «وصول العنصرية المتشددة مارين لوبان إلى رئاسة فرنسا أمر لن يحدث أبدًا»، مع أن الرجل يعرف أنه على رأس مفوضية متصدعة من الداخل، وعلى رأس مشروع يمر بأصعب وأدق فترة في تاريخه الذي تجاوز الخمسين سنة.
الأخبار السيئة تتوالى بالجملة على المتفائل جان كلود جونكر. إيطاليا هي الأخرى قد لا تنجو، من سيناريو كذاك البريطاني، مع دعوة مواطنيها إلى استفتاء على تعديلات دستورية إصلاحية يقودها رئيس الوزراء ماتيو رينزي. وكما بريطانيا أيضًا، فإن (لا) المصوتين إن هي رجحت كفتها، وهذا محتمل جدًا، فإنها ستؤدي إلى انتخابات مبكرة، يخشى أن تفوز بها حركة «خمسة نجوم» بزعامة الممثل الهزلي بيبي غريللو، الراغبة بحماسة في الخروج من الاتحاد.
كرة الثلج قد تتدحرج من النمسا نهاية هذا الأسبوع، ومن أعالي جبال الألب الخلاّبة والخطرة في آن، لتكبر وتتضخم بفعل الخوف المتنامي، والرغبة في التقوقع والانكماش وحماية الذات، في زمن كل ما فيه ينذر بتغييرات سريعة وغير مسبوقة، ومخاطر تحتاج إلى التضامن أكثر من أي وقت مضى. ومع ذلك تأتي ردود الفعل معاكسة لما يمكن أن يمليه عقل أو يتصوره ذهن.
كل ذلك يعيد إلى الذاكرة كتابا جميلا للباحث الفرنسي أندريه لوبو عنوانه «تقوقع العالم» صدر عام 2008، يقدم فيه كاتبه رؤية شديدة التشاؤم، لما يتجه إليه المزاج العام، ويحذر من نهاية سوداء، ومن انحدار متدحرج للمجتمع الإنساني، حيث تعود الأمم إلى الانقسام والتشرذم، فيما يشبه الحنين إلى زمن القبائل والعشائر المتناحرة. لوبو رحل عام 2013، لكنه وهو الفيزيائي المحنك كان يرى بعين مرتعبة، الاستشراس على استهلاك طاقات الكوكب وخيراته، وما يستتبعه من جشع النيوليبرالية الوحشية. كل شيء صار موضع صراع؛ الماء، الأرض، الشجر، مصادر الطاقة، وحتى الفضاء. كان لوبو يرى أن ما تبقى من فتات الخيرات من الصعب أن يكفي 9 مليارات بشري سيسكنون الأرض بعد أقل من 40 سنة. الإحساس ببشاعة الآتي يزن ثقيلاً وخطيرًا.
كان لوبو حينها، يبدو طوباويًا، متفلسفًا، رومانسيًا، يطلق صيحات كنعيق ألبوم في حديقة غنّاء. في الصيف المقبل، وبعد أن تنقضي انتخابات أوروبا المتلاحقة، قد يقرا كثيرون هذا الكاتب الإنساني، وغيره ممن رأوا بعيني زرقاء اليمامة، مرة جديدة، وبروح مختلفة، خاصة أن لوبو كان يعتبر «أن أعظم الأخطار على الإطلاق هو داء العمى حين يضرب النوع البشري برمته».