د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

ترامب ضد العولمة

هل من الصحيح أن هناك اتجاهًا عالميًا جديدًا مضادًا للعولمة التي ظهرت صيحاتها مع انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفياتي؛ وأن انتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة لم يكن أولَ المعبرين عن الاتجاه الجديد ولن يكون آخره؟
السؤال أصبح مطروحًا بإلحاح عندما نمت عافية الأحزاب اليمينية في أوروبا الغربية خلال السنوات القليلة الماضية، وكلها بلورت حزمةً من الأفكار المضادة لاتجاهات ورموز «العولمة» الرئيسية من أول هجرة البشر إلى حركة التجارة إلى المؤسسات التي عبرت عنها، بشكل ما لم يعد ممكنًا تلاقي الأفكار اليمينية المعروفة حول دور الدولة في الاقتصاد والمجتمع مع أفكار العولمة، أو حتى ما كان معروفًا بالنظام الدولي المتسم بحرية التجارة. وعلى العكس من ذلك فإن توجهات «اليمين» أصبحت تميل بقوة نحو الانعزال والعزلة، والتقوقع داخل شرنقة الدولة القومية مع درجة كبيرة من التوجس في الدول الأخرى بما فيها تلك التي اجتمعت داخل تحالفات واندماجات وتكاملات عابرة للحدود الوطنية. ولم يمضِ وقت طويل حتى بدأت هذه الاتجاهات الجديدة تأخذ أشكالاً عملية ظهرت في الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي فيما بات معروفًا بـ«البريكزت Brexist»، وجاء انتخاب ترامب لكي يشكل ما هو أكثر من انتخاب رئيس جديد تحت راية اليمين، وإنما ظاهرة متكاملة يمكن نعتها بـ«الأميركزيت Amerexit». وسواء كان الاتجاه ضد العولمة بريطانيًا أو أميركيًا فإن سماته كانت الخروج على المنظمات العالمية عابرة الحدود وما فرضته من بيروقراطية من نوع خاص؛ وما طرحته من تفاعلات اعتبرتها دول غنية وأغلبيتها بيضاء غير عادلة. ولم يكن الخروج من العولمة الاقتصادية فقط، وإنما برز أيضًا في الخروج من المؤسسات الأمنية الدولية كما فعلت روسيا مؤخرًا بالخروج من المحكمة الجنائية الدولية ومناداة دول أخرى بضرورة الخروج منها.
المدهش أن الاتجاه «ضد العولمة» احتل دائرة الاهتمام العالمي اعتبارًا من التغير الذي جرى في الولايات المتحدة، وهي التي كانت الرمز الأساسي لأفكار العولمة كلها. فهي دولة تعيش حالة العولمة نتيجة كونها دولة تقوم على الهجرة التي جعلتها نوعًا من «سفينة نوح» التي تضم أجناسًا شتى من كل بقاع الأرض. وهي دولة من ناحية أخرى تبنت بقوة حرية التجارة ودفعت في اتجاه إنشاء منظمة التجارة العالمية؛ وبشكل من الأشكال فإنها سعت دائمًا للضغط على الدول التي تبنت أفكارًا تعزلها عن الاقتصاد العالمي والسوق العالمية. وفي بعض التفسيرات فإن انهيار الاتحاد السوفياتي كان في جوهره راجعًا إلى ضغوط العولمة التي لم تتحملها الخصائص الاقتصادية للدولة الاشتراكية؛ وحتى عندما لم يحدث الانهيار في الصين فإن بديله كان التحول الشامل نحو اقتصاد السوق والاندماج في السوق العالمية حتى الدخول إلى منظمة التجارة العالمية. والدولة الأميركية دون شك كانت المصدر الرئيسي للتطور الهائل في قوى الإنتاج العابرة للدول والقارات؛ وسواء كان ذلك متعلقًا بانتشار المعرفة أو الاتصالات، فإن ما بات معروفًا بالثورات العالمية التكنولوجية قامت على ما أفرزته المعامل والجامعات وأحيانًا الورش الأميركية. وعلى أي الأحوال فإن الولايات المتحدة باتت المثال لعمليات الاندماج والتكامل والتنوع التي تجري في العالم، وعلى مستويات الدول والأقاليم وحتى العالم كله فيما يتعلق بالكثير من الوظائف الكونية الممتدة من الطيران إلى البريد إلى الاتصالات إلى السياحة حتى نصل إلى التجارة ومكافحة الإرهاب.
ظاهرة «ضد العولمة» كما تبدو نبتت من داخل الدول الأكثر عولمة في العالم، وهو الأمر الذي يمكن فهمه في إطار «ديالكتيك» التطور العالمي، حيث ينبت النقيض دومًا من رحم الظاهرة ذاتها وليس من خارجها. وفي هذه الحالة فإن ذلك النقيض يأتي نتيجة أن مستويات التطور والتغيير لا تكون بالضرورة متساوية أو عادلة أو أنها توزع عوائدها بدرجة كافية من الانتظام بين كيانات اجتماعية وسياسية واقتصادية مختلفة. والحقيقة أنه لم يكن ممكنًا لدونالد ترامب أن ينجح في الانتخابات الأميركية لولا ذلك التحول الذي جرى في الولايات «المتأرجحة» والمعروفة بولايات الصدأ، مثل بنسلفانيا وميشيغان وأهايو وويسكونسن التي تقوم على الصناعات الثقيلة والتقليدية والتي كانت الأقل تعرضًا لأدوات ووسائل الثورات الصناعية الأخيرة. وبشكل ما فإن المظاهرات التي جرت في الولايات المتحدة بعد انتخاب ترامب، بل واحتجاجًا على نجاحه، كانت هي الولايات الأكثر عولمة بالمعنى الاقتصادي والتكنولوجي والتي ثارت على الولايات الأقل عولمة. كان الأمر ببساطة غضبًا من «وادي السيليكون» على المجمعات الصناعية الثقيلة للحديد والصلب والسيارات التي فازت في الانتخابات. وباختصار فإن الولايات المتحدة الأميركية لم تعد «متحدة» بمعنى التناسق بين درجات التطور الصناعي والتكنولوجي، ولا «أميركية» بمعنى رغبة «البيض» الأقل تعليمًا في احتكار تعريف ما هو أميركي.
فإذا كان ذلك كذلك، فإن المرجح هو أن ظاهرتي «بريكزت» و«أميركزت»، هما ظاهرتان عارضتان، تعبران عن لحظة تصادم ما بين الجديد والقديم، والحديث والتقليدي. وما سوف يلي من ظواهر مماثلة بازغة في فرنسا والنمسا وإيطاليا، وظهرت رؤوسها في دول غربية كثيرة أخرى يطالب بعضها بالخروج من الاتحاد الأوروبي، ويطالب البعض الآخر بالخروج من قواعد السوق الدولية الجديدة، وما هي إلا لحظة ضرورية في مسار تاريخي طويل. فالثابت تاريخيًا أن كل الثورات الفارقة في تاريخ البشرية لم تنتهِ بانتصار ساحق وماحق على كل ما سبقها، وما جرى كان نوعًا من الصراع والتوتر والتعايش أحيانًا، حتى يكون الوصول إلى مرحلة يذوب فيها القديم فيما هو جديد. والمعضلة ربما في العصر الحديث أن حركة التاريخ تجري أمام أعين البشر، ومن خلالها نرى ونسمع لليمين البريطاني حتى فاز في استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي؛ كما تمت المشاهدة الكاملة لما حدث في الانتخابات الأميركية، حتى أن عشرات الملايين من البشر المنتشرين في المعمورة كلها ظلت عبر ساعات النهار والليل، تراقب وتتابع المناظرات الأميركية بين دونالد ترامب وهيلاري كلينتون. ولعل نتيجة الانتخابات ذاتها تكون موحية عندما فازت كلينتون بأغلبية أصوات الناخبين، بينما حصل ترامب على أغلبية المجمع الانتخابي.
المعضلة الأخرى هي أن لكل تطور تاريخي ثمنًا مدفوعًا ليس فقط أمام صناديق الانتخابات، وإنما أحيانًا يكون ذلك احتكامًا للسلاح. وفي وقت من الأوقات فإن المعارضة للعولمة جاءت من عنف التيارات الراديكالية الإرهابية التي استهدفت كل المجتمعات الحديثة تقريبًا، ولكن في الوقت الراهن فإن ظواهر التناقض في المجتمعات الحديثة ذاتها هي التي تفرض نفسها. فإذا ما اجتمع كلاهما في فترة تاريخية واحدة فإن الأثمان تكون مضاعفة، وعندما يكون ضمن برنامج ترامب ليس فقط طرد المهاجرين من أميركا اللاتينية، ومنع المسلمين من دخول الولايات المتحدة؛ وإنما زيادة حادة في ميزانية الدفاع تصل إلى 20 في المائة حتى تصل إلى 700 مليار دولار عام 2017 وينجم عنها زيادة كبيرة في حجم القوات الأميركية وقدراتها التدميرية. هل هناك معنى آخر لكل هذا السلاح إلا أنه يكشف عن لحظة منذرة في التاريخ الإنساني؟