سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

في الطريق إلى «الإليزيه»

تكاد لا تصدّق، وأنت تسمع أحد المرشحين لرئاسة الجمهورية الفرنسية، يتحدّث عن ضرورة عودة التلامذة في المدارس إلى تحية العلم في الصباح، وسماع النشيد الوطني، ولبس المريلة الموحدة، على الطريقة التقليدية، دون أن يثير ذلك استهجانًا. خدمة التجنيد الإجباري باتت من المستحبّات. جديد أيضًا، شبه إجماع بين المرشحين على رفع ميزانية الدفاع والتسلح، والدعوة لحماية البلاد اقتصاديًا من أميركا، الحليف، و«الأخ الأكبر». إرباك شديد تجاه روسيا، وبحث عن طريقة مقبولة للتعاطي معها، طالما أن الرئيس الأميركي المنتخب نفسه يمنّي النفس بتوثيق عرى الصداقة مع بوتين. هل تلحق فرنسا ومعها أوروبا برغبات ترامب وهي مغمضة العينين، أم تلتقط أنفاسها وتتفكر؟ وهل الأوروبيون قادرون على صياغة موقف موحد؟ كم هي شائكة الأسئلة الجديدة، ومؤلمة ستكون الأخطاء المرتكبة؟
حقًا لم يكن ينقص الأرض الفرنسية الموحلة، المتصدعة إلا زلزال فوز دونالد ترامب المفاجئ، وتمرد بريطانيا على الاتحاد الأوروبي، وتركها فرنسا وألمانيا تتحملان عبء صيانة هيكل المشروع الأوروبي الطموح الذي ما عاد بمقدوره أن يحتمل أي دولة جديدة.
الأولويات تنقلب رأسًا على عقب. لا كلمة تتردد أكثر من مفردة «حماية الفرنسيين». كان الهمّ منصبًا على البطالة التي تتصاعد بلا رحمة، وسدّ العجز، وزيادة الإنتاج صار محور الكلام على أن «من لا يحمي نفسه عسكريًا لن يجد من يدافع عنه». للمرة الأولى تدخل المنطقة العربية، وتحديدًا سوريا، في صلب النقاش الانتخابي، وتكون جزءًا أساسيًا من برنامج أي مرشح. تكاد تظن أنها مقاطعة فرنسية سادسة، أضيفت إلى أراضي ما وراء البحار. لم يخطئ ماكلوهان حين قال: «إن العالم صار قرية كونية صغيرة»، ويبدو أنه سيصبح أصغر.
الميل كذلك إلى إعادة النظر ببعض الاتفاقات الأوروبية، ولا بأس بوضع بعض نقاط المراقبة الصغيرة على الحدود. مطلوب ومن دون حرج التخفيف من سلطات بروكسل، وإعادة الثقل إلى الدولة الوطنية. تخيف العولمة أباطرتها وكهنتها وحراس هيكلها. هذا لم يكن محسوبًا قبل سنوات قليلة فقط. الغرب مخترع «منظمة التجارة العالمية»، و«اتفاقية الغات»، و«حلف شمال الأطلسي»، والمبشر بـ«حرية التنقل»، و«فتح الحدود» على مصراعيها، يتراجع عن دعم «نظام حرّ» وضع مداميكه بعد الحرب العالمية الثانية، ودافع عنه طوال 70 سنة، مشجعًا دول البسيطة بالعصا والجزرة، كي تدخل في كنفه، لأنه يحمي قيم «نهاية التاريخ» وأفضل ما يمكن أن تصل إليه البشرية. لا يزال فوكوياما حيًا، ويرى نظريته تذروها ريح الفوضى والخوف من المجهول.
لا يختلف مرشحان فرنسيان على محاربة «التطرف»، ومجابهته في الخارج كما في الداخل، التمايز هو فقط، في الطريقة والأسلوب، لتحقيق الهدف المنشود. مرشحة يمينية تشير إلى أن «داعش يهاجمنا حضاريًا ونحن نرد عليه فرادى». هذا من المضحكات المبكيات، أي وزن حضاري لـ«داعش» إذا ما قورن بالآلة الثقافية الغربية من «هوليوود» بجيوشها الإبداعية الجرارة إلى الأساطيل العسكرية التي تجوب البحار والمحيطات. أصاب كبد الحقيقة أمين معلوف حين استشرف «اختلال العالم»، ووصول الحضارات إلى إنهاك يبلغ بها إفلاسًا قيميًا وأخلاقيًا، بسبب تماديها لسنوات مديدة في سلوكيات غير مسؤولة، لا سيما الحضارتين الغربية والعربية.
ثمة أحساس في فرنسا، بأن التهديد آتٍ من كل اتجاه، من ليبيا التي باءت المشاركة في حربها بالفشل، من سوريا وحربها الكونية المصغرة، من دول أوروبا وحدودها المنتهكة، من أميركا التي تلفظ أولادها التاريخيين، وحتى من تركيا. ألان جوبيه يقول بأن «أوروبا قبلت من تركيا بما لا يقبل، وعليها أن تراجع حساباتها. رضيت بإعادة النظر في ضمها للاتحاد، وسهّلت دخول الأتراك إلى أراضيها. والآن لم يعد لهم من مكان بيننا». ما قبل الانقلاب على إردوغان ليس كما بعده. سجن صحافيين، ليس مما ينظر إليه بارتياح. هناك إحساس بأن تركيا تراوغ ولا تفي بوعودها. في المقابل، ماذا لو غضبت تركيا وتركت آلاف اللاجئين يعبرون البحر هروبًا؟ كيف بمقدور أوروبا أن تواجه الانتقام التركي؟ تبدو الحلول نفسها أحيانًا، وكأنها تحمل فتيل تفجيرها الذاتي.
لن تكون مهمة الرئيس الفرنسي الحادي عشر بالسهلة. الخلافات الأوروبية كثيرة، والانقسام الفرنسي ليس بالهين، كما أن التحديات هائلة. يحاول اليمين أن يتطرف قدر ما يستطيع. وتعرف زعيمة «الجبهة الوطنية» المتشددة مارين لوبان، أن الاستياء الشعبي يزيد من حظوظها بالربح ويقربها من الإليزيه. جلّ ما يستطيعه المرشحون أمام قلق الناس وفي سبيل استرضائهم، هي وعود بالسير إلى الوراء، باستعادة شيء من المحافظة والتقوقع واستنفار الروح القومية. «الشعبوية» التي جعلها انتخاب دونالد ترامب صيحة غربية، تقتضي طمأنة المرتعدين من غدٍ معالمه شبحية والحسابات معه كالضرب في الرمل. الشعوب تعيد تموضعها، الدول لا تجد بدًا من إعادة هيكلة نظمها. العولمة خلّفت عالمًا جديدًا في اقتصاده وفكره وفلسفته. مؤسف أن لا تجد النخب السياسية المربكة أمام المتغيرات الهائلة سوى الرجعة إلى الملاجئ القديمة التي لم تعد صالحة للاستعمال.
بعد «بريكست» بريطانيا، وترامب أميركا، ستكر سبحة المفاجآت الأوروبية. يريد الفرنسيون رئيسًا مختلفًا، لا يشبه كثيرًا الذين سبقوا. ولكن من يملك الإجابة عن معضلات صار أصغرها وأكثرها ضآلة، له بعد بحجم الكوكب؟ «الفوضى» الكبرى التي حذر منها أمين معلوف لا بد ستحكم السنوات المقبلة، والخلاص البشري المتعايش بسلام مع الذكاء الاصطناعي الحادّ، يحتاج إلى فلسفة «الأوبونتا» الأفريقية القائمة على حذف الثأرية بالكامل، واعتناق المسامحة نهجًا والإنسانية هوية. وهذا لا يزال عصي المنال.