فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

العالم بعيون غير يسارية

يمكن اعتبار فوز دونالد ترامب مجرّد رأس جبل الجليد لأفكار الانغلاق الاجتماعي، وصعود الهوية المركزية، وانقضاء زمن العولمة الذي انتعش في الربع الأخير من القرن العشرين. الاضطراب الذي يعصف بمنطقة الشرق الأوسط سياسيًا، والأوجاع الاقتصادية التي ضربت الجميع ستكون مؤثرةً على شكل الالتقاء بين المجتمعات، في العالم، بما ينذر بدخول زمن الانكفاء والتحفّز والانعزال، بدلاً من عقود تواصل والتقاء كانت بلغت أوجها قبل أن تتراجع تدريجيًا بدءًا من أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول).
مجيء ترامب مجرد ثيمة لحقبةٍ قد نرى آثارها قريبًا علامتها تراجع أفكار اليسار الغربي، وصعود أحزاب اليمين. وإذا كانت الصيحة المحافظة في واشنطن، فإن الإجابة عنها في أوروبا، أحزاب يمينية تسعى بجهدٍ حثيث للفوز وبخاصة في ألمانيا وفرنسا.
تحديات اللاجئين، والمهاجرين غير الشرعيين، وتصاعد النبرة التفاوتيّة بين المجتمع الواحد هو ما يجعل من انتعاش اليسار في المرحلة الحاليّة أمرًا صعبًا. الضغط الثوري في المنطقة، وتهاوي المؤسسات السياسية، وتلاشي أدوار السلطات تعزز التشوّف إلى أحزاب انعزاليّةٍ تعزز الهويّة المركزية، وتميّز المواطنين الأصليين عن المواطنين الآخرين. ثمة إلحاح على الدور اليساري في التغيير الثوري، نقرأ مثلاً لمفكر يساري مثل سلافي جيجك: «أن استمرار تجاهل الليبراليين المعتدلين لليسار الراديكالي إنما هم يولّدون موجة أصولية تكتسح كل شيء، إذ إن إسقاط الطغاة هو المطلب الذي يهتف له كل الليبراليين الأخيار، إنها ببساطة مقدمة السعي الدؤوب صوب التحولات الاجتماعية الجذرية، والتي من دونها تكون عودة الأصولية، في عالمٍ كل شيء فيه تحت رحمة رأس المال، فإن السياسات الراديكالية فحسب ستنقذ كل ما هو ذو قيمة في الإرث الليبرالي» هذا ما يشرحه بالنيابة عنه تيري إيغلتون، صاحب كتاب «أوهام ما بعد الحداثة» الذي قرأ فلسفات الاختلاف كما يقول بمنظور «اشتراكي» والمهتم بمراجعة مقولات جيجك.
بعض الطروحات تتحدث عن انكساراتٍ لليسار حتى في أميركا الجنوبية، لكنه تراجع طفيف، لا يمكن مقارنته بالذي يجري في دول أوروبية والولايات المتحدة، مع أن اليسارية الغربيّة بحلتها المعدلة عن اللينينية جعلتها نقطة التقاء بين تياراتٍ متنوّعة في أهدافها وأشكالها ومستوياتها بامتداد الجذور بما يعيدها إلى ما قبل الحرب العالمية الثانية، والنكسة التي يعيشها غربيًا لم يحدث منذ نضجه وانتشاره الآيديولوجي عام 1945.
يأتي تصاعد اليمين رغبةً في تغليب القوة على الحق، وتخفيف طغيان الوسيلة الحميدة، رغبةً في الغائية الأكيدة مهما كانت أخلاقية الوسائل الموصلة إلى النمط المراد اجتماعيًا. الهدف تحقيق الشكل الاجتماعي ضمن القوانين المزمعة والمحمية من الأحزاب السياسية الراغبة في تخفيف التواصل، وإغلاق الفضاءات الجامعة، ولجم العولمة المقوّضة للهويات والمهدّمة للحدود، والمخففة للصراع بين الأمم والحضارات والثقافات والهويات.
قد تكون النزعات المحافظة الصاعدة مركّبة ضمن صيغةٍ جديدة، تجمع بين تاريخ التواصل وإرثه، وصناعة أشكال انعزاليّة ضمن أسس ليبرالية محددة لكنها ليست مندفعةً نحو الغريب، هذا مؤشرٌ يطرحه مفكر بارز مثل داريوش شايغان في كتابه الجديد: «هوية بأربعين وجهًا» في فصلٍ مهم لافت بعنوان «كيف أمسى العالم شبحًا»، وها نحنُ نشهد بسبب عدم تناغم مجموعة من العوالم الممزقة، انبثاق ظواهر جديدة تمام الجدة. ثمة نزعة روحية تتحرك بموازاة التطورات التقنية المذهلة، فقد عادت إلى الظهور معتقدات منسوخة بامتياز، صاغتها حضارات قديمة، ومعها أتباع الشمس، وشتى صنوف الفرق الدينية، والمتنبئون بالمستقبل والمؤمنون بأسرار الألفية ونهاية العالم.. سمة الإرباك والفوضى في عصرنا هي بالضبط ما يمكن نعته بفقدان الإحداثيات». كل القوالب تتكسر، والأشكال المطقّمة تتغيّر.
المؤشر الأهم في ظل النتائج السياسية، وارتفاع أرصدة المحافظة والتقوقع، أن المجال الرحب المعولم لن يكون كما هو مستقبلاً، إذ ستبدو تيارات أكثر قدرةً على حراسة الهويّات الأصلية، والنزوع نحو التمييز، وتشجيع أفكار التفاوت. الاضطراب السياسي سيعزز من ارتباط الحق الذاتي بالسلطة، وهي قد تكون استعادة وتدويرًا لفلسفة توماس هوبز المؤوية للسلطة في جيب الحقيقة، والرابطة بين الحق والسلطة، والجاعلة من الفرد والدولة والمجتمع مكوّناتٍ للحقيقة، وما الحق إلا ما نبع من ظهور السلطة. وسبب ذلك تلاشي الجدوى الثورية، وتفاقم الأعباء الناجمة عن المساواتيّة، وربما نشهد أمرًا موحشًا يتمثّل في «تقنين فائض المشاعر الإنسانية» لصالح الانتصار للتركيبة السكانية، بسبب ازدياد حالات اللجوء والهروب، انطلاقًا من التفكك السياسي كما في ليبيا وسوريا والساحل الأفريقي، أو الأزمات الاقتصادية في شمال أفريقيا، وربما العامل الديني إذا ما تقدّم «داعش» واحتل مساحاتٍ أخرى خارج العراق وسوريا، كل ذلك ينشّط حالات المحافظة ويغري المجتمعات بأفكار أكثر انكفاءً، وقد يتضاءل استيعاب تيارات اليسار بسبب ارتباط الجماعات الإرهابية بأفكار يعتبرها اليساريون محقّة كما في اعتبار حركات فلسطينية بوصفها جماعات مقاومة، بينما تجري مذابح وسط باريس من جماعاتٍ أخرى رديفة موازية.
إنه زمن مختلف، بعناوين جديدة، بمسميات جديدة، وكل ذلك بسبب تنامي الاضطراب في كل المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وكل ما نعيشه شاهد على الانكماش، لم يعد العالم مقروءًا بعيون يسارية كما هي مقولة إيغلتون عن رؤية جيجك.