بكر عويضة
صحافي فلسطيني بدأ احتراف الصحافة في ليبيا عام 1968 حيث عمل في صحيفة «الحقيقة» في بنغازي، ثم «البلاغ» و«الجهاد» في طرابلس. واكب صدور الصحافة العربية في بريطانيا منذ 1978 فعمل في صحيفة «العرب»، ثم مجلة «التضامن»، وبعدها جريدة العرب الدولية «الشرق الأوسط»، كما عمل مستشاراً لصحيفة «إيلاف» الإلكترونية.
TT

وعدٌ تبعته وعود

لست أدري إن خطر للجهات الفلسطينية خلال أسبوع الحيرة والترقب بمختلف أركان الكوكب، أن تضع الخطط التي تناسب مرحلة ما بعد انتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة. الأمل أن هكذا تفكير حصل فعلاً، إذ هو أفضل كثيرًا من تكرار بيانات استنكار وشجب لما وقع قبل تسعة وتسعين عامًا. مثير للدهشة أن يغيب عن أغلب ساسة الفلسطينيين وزعماء تنظيماتهم إدراك كم ملّ معظم الناس أسطوانات أعطبها شرخ الزمن لكثرة تكرارها. كم ألف مرة كرّر أولئك الساسة توبيخ وعد بلفور، وكم من الوعود كرروا بإلقاء ذلك الوعد المشؤوم في سلة مهملات التاريخ، بينما هم ينكثون وعدًا بعد آخر بأن يجمعوا أمرهم على توحيد مواقفهم؟ حقًا، لماذا يعجزون عن الوفاء بوعودهم تلك، حتى مع وجود تعارض في سياسات تنظيماتهم؟ ما الذي يمنع توافق مواقف القيادات الفلسطينية على أرضية البناء إيجابيًا، وبلا كلل، فوق أرض أمكن استرجاعها بعد تضحيات مؤلمة، يمكن تلمس آثارها تحت سقف كل بيت. هل وعد بلفور هو المسؤول عن تناحر زعامات الفلسطينيين أم الإخلال بوعود تحقيق مصالحة وطنية تنطلق من صفاء النيّات، وتكون البديل الوطني الصادق لسياسات إرضاء أطرافٍ، من الواضح للناس جميعًا أن لكل منها مصالحَ تعنيها أولاً، وآخر همّها هو تصالح الذات الفلسطينية مع نفسها؟
كلا، ليس الاعتراض هنا على التذكير بخطيئة رسالة آرثر جيمس بلفور، وزير الخارجية في حكومة ديفيد لويد جورج، الموجهة بتاريخ 2- 11- 1917 إلى وولتر روتشيلد، والمتضمنة ما صار يُعرف عالميًا بـ«إعلان بلفور»، فيما أعطي عربيًا صفة «وعد»، بشأن مساعدة اليهود على تحقيق قيام وطن في فلسطين، من دون الإخلال بحقوق غيرهم، وهو بند أخلت به بريطانيا ذاتها، أو قل إنها تخلّت عنه، عندما أنهت انتدابها لفلسطين انفراديًا، وسحبت جنودها قبل أن تفرض على الأرض وضعًا ينسجم مع ما تضمنه إعلان وزير خارجيتها.
ذلك كله موثق تاريخيًا، وليس ثمة إشكال في استحضاره فلسطينيًا كل سنة، إذ لكل الشعوب حق التوقف أمام محطات مفصلية مرّت بها وأثرت في رسم مستقبلها. بريطانيا نفسها تذكرت طوال الأسبوع الماضي ما وقع للبريطانيين خلال حربي العالم الأولى والثانية، وكما كل عام تُوّجت الذكرى في تمام الحادية عشرة من نهار الحادي عشر بوقوف البشر، وتوّقف كل شيء مدة دقيقة، ثم مضى كل امرئ يواصل عمله. وفي السياق ذاته، من حق الفلسطينيين وواجبهم أن يتذكروا كل عام بصمة الأثر الظالم التي بصم بها وعد بلفور حاضرهم زمنذاك، ومستقبل أجيالهم لاحقًا. إنما الفرق بيّنٌ أيضًا بين تذكر مرفق بعمل حقيقي، وبين إعادة إنتاج خطب بكائية، وبيانات تنديدية، وأحيانًا تهديدية، نثرًا وبلاغةً وشعرًا. ولو أنني عدتُ بالزمن إلى سنوات المدرسة الابتدائية والإعدادية، وفتحت كراريس كانت وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين تزوّد المدارس بها، ثم رحت أقرأ مواضيع الإنشاء التي كنت أكتبها كل سنة للمناسبة ذاتها، كما غيري، لما وجدتُ كثير فارق بين كتابات التلاميذ وخطاباتهم الحماسية آنذاك، وبين ما يردد زعماء تنظيمات الفلسطينيين وساستهم منذ خمسين سنة أو أكثر.
مع ذلك، يجب القول إن ساسة الفلسطينيين وقياداتهم ليسوا وحدهم المخلين بوعود تبعت وعد بلفور. أطراف عدة بمشارق الأرض ومغاربها أخلت هي أيضًا بأكثر من وعد لو حصل التزام أخلاقي بها ونُفذت، لأسهم ذلك في تعجيل المسار السلمي، وسدّ الذرائع أمام كل طرف يسعى لتعطيل أي سلام فلسطيني- إسرائيلي. أول تلك الأطراف هم ساسة إسرائيل وزعماء أحزابها المتنفذين، وسطًا ويمينًا ويسارًا. صحيح أن بينهم من سعى جادًا للسلام، لكن أغلب مَن تسلموا دفة الحكم في تل أبيب نكثوا بوعود كثيرة، وتراجعوا في أدق اللحظات عن المضي قدمًا حتى بشأن وضع اتفاق أوسلو موضع تطبيق صحيح، بمن فيهم إسحق رابين، رغم أنه دفع حياته ثمنًا للتطرف بين بني قومه.
هناك أيضًا أكوام وعود بشأن إعانة الفلسطينيين على تحقيق حلمهم المشروع بالدولة المستقلة فوق ثلث أرضهم، تلك الوعود كررها ساسة عواصم عالمية عدة، من لندن إلى واشنطن، لكنها لم ترَ قبسًا من نور التنفيذ. ذلك تقصير يُلام عليه المجتمع الدولي، لكنه لا يعفي القيادات الفلسطينية من مسؤولية اختلافهم على حد أدنى يجمع كلمتهم ويوحد مواقفهم، في المحافل الدولية. تُرى، هل يجوز الأمل في التوصل إلى استراتيجية فلسطينية موحدة تستطيع التعامل بحكمة وذكاء مع عصر الرئيس دونالد ترامب، بدل الاكتفاء ببيانات شجب وعد بلفور؟ لعل وعسى.