أمل عبد العزيز الهزاني
أستاذة في جامعة الملك سعود في السعودية. باحثة في علوم الوراثة الجزيئية. خبيرة في الإدارة الأكاديمية. كاتبة سياسية منذ عام 2009. كاتبة مقال أسبوعي في «الشرق الأوسط».
TT

الأكراد في واجهة المعارك الحاسمة

نجاحات متلاحقة حققها التحالف الدولي للقضاء على تنظيم داعش في مدينة الموصل العراقية، كان للولايات المتحدة دور القيادة والتحكم، وقبل ذلك التدريب والمشورة. تميزت معركة الموصل بأنها شبه نظيفة من الجرائم الطائفية التي عادة ما ترتكبها ميليشيا الحشد الشعبي المدعومة من إيران كما سبق أن حصل في تحرير الفلوجة. واشنطن أرادت من تدخلها الحاسم ضد «داعش» في العراق وسوريا أن تكون بمثابة إمضاء على الورقة الأخيرة للرئيس أوباما في البيت الأبيض قبل مغادرته خلال أسابيع قليلة، وحرصت من أجل ذلك على تهدئة الأطراف المتنازعة وإرضاء كل طرف حتى لا تتأثر وتيرة الحرب.
تركيا أكدت أنها ستدخل الموصل للمشاركة في طرد «داعش»، وأن قواتها المدربة في معسكر بعشيقة شمال الموصل مهيأة لاقتحام المدينة. ومع رفض رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي التدخل التركي، لم تتحقق أمنية أنقرة، بناء على طلب الولايات المتحدة. حتى ميليشيا الحشد الشعبي لم يكن لها دور يذكر في المعركة، كان الجيش العراقي والبيشمركة الكردية هما المسيطرين على المعارك البرية، وهي الحالة المثالية التي سعت لها واشنطن، لا الحشد الشعبي المتهم بالطائفية ولا الأتراك الذين يعتقدون بحقهم التاريخي في التدخل ويثيرون بذلك نوازع قومية للأقليات المتنوعة في الشمال. ولأول مرة في تاريخ العراق تقر الحكومة المركزية في بغداد بالدور الوطني للأكراد، بفعل دورهم العسكري الذي فرض نجاحًا محققًا في معركة الموصل.
سيناريو شبيه يريده أوباما في الرقة السورية، ثاني أكبر معقل لتنظيم داعش بعد الموصل العراقية. فهل ثقة واشنطن في الأكراد، جاءت على حساب العرب والأتراك والفرس؟ الأكراد يتسمون بصفات غير موجودة لدى الأعراق الثلاثة الأخرى، أهمها أن آيديولوجيتهم يسارية، وليست دينية، مما يسهل التوافق معها بعيدًا عن الحسابات الطائفية والشعارات الدينية. كما أن البيشمركة في العراق وقوات سوريا الديمقراطية في شمال سوريا، تمثلان جيشًا مستقلاً، وبعض التقارير تفيد بأن عدد أفراد قوات البيشمركة وحدهم يزيد على ربع مليون عنصر مدرب. وقوات سوريا الديمقراطية في الشمال السوري التي تعد ذراعًا عسكرية لحزب الاتحاد الكردستاني الفرع السوري لحزب العمال، حظيت بتمويل وإعداد وتدريب من مستشارين أميركيين خلال الأشهر الماضية. الأكراد ليسوا فصائل متفرقة تتنازع على الأرض وتختلف حول توزيع السلطة، فهي تملك وحدة الهدف والوسيلة، مما يجعل منهم أداة ناجحة وفاعلة لإدارة المعركة دون الخوف من تبعات التسليح.
الجانب التركي يقف على «الباب»، وهي مدينة في شمال الرقة، بقواته التي يدعمها والتي تتألف من عرب وتركمان في غالبيتهم ضمن عملية «درع الفرات»، ورغم تطمينات واشنطن بأن لتركيا دورًا في تحرير الرقة، تبقى ماهية هذا الدور غير واضحة، وقد يكون دورًا غير مباشر من خلال مشاركة المعارضة السورية العربية التي دربتها تركيا والولايات المتحدة الأميركية في الأراضي التركية أو في الخليج، على اعتبار أن الرقة محافظة عربية، ومشاركة قوات عربية في التحرير ستقطع الطريق على خلافات مستقبلية متوقعة في عزو الفضل في تحرير المحافظة إلى الفئة الغالبة التي ستطالب بالثمن.
تركيا تبدو منزعجة من الخطة الأميركية في الموصل والرقة، لكنها تنفّس عن غضبها داخليًا باعتقال نواب وصحافيين موالين للأكراد، تتهمهم بارتباطات بحزب العمال الكردستاني تارة، وتارة أخرى بأن لهم صلات بالمعارض فتح الله غولن الذي تتهمه أنقرة بمحاولة الانقلاب في يوليو (تموز) الماضي. تركيا تخشى أن ينحسر دورها في استقبال اللاجئين الفارين من الموصل والرقة، وكما علق أحدهم غاضبًا بأن «من الصعب تخيل انحسار دور تركيا في كونها بيتًا للضيافة، والمعارك تشتعل على حدودها». أميركا استجابت لطلب الأكراد بعدم مشاركة الأتراك في معركة تحرير الرقة، لكنها مستعدة لمشاركة العرب في تحرير منطقتهم، وهذه المعادلة تروق لواشنطن ولا تريد أن تشوبها شائبة. وما قيل إن واشنطن لا تثق بالجيش التركي لأنها ترى أن بعض قياداته لا يحمل ولاء لإردوغان غير صحيح، بدليل أنها سمحت للجيش التركي بالدخول بدباباته مع قوات الجيش الحر لتحرير بلدات على الحدود، مثل جرابلس ودابق.
مشكلة تركيا الكبرى سواء في العراق أو سوريا، ليست النظامين العراقي والسوري ولا حتى «داعش»، المعضلة التاريخية التي تحتل أولوية أنقرة هم الأكراد، إثبات دورهم في تحرير الموصل أطلق أقاويل وأحاديث خرجت من أروقة بغداد بأن الأكراد يستشعرون أن الوقت قد حان لتحقيق مشروعهم الكبير بالاستقلال، ورغم أنها مجرد مزاعم، لكنها مقلقة بالنسبة لتركيا، خصوصًا لو تمت في الشمال السوري. تركيا تسابق القوات الكردية في تحرير بلدات الشمال السوري من «داعش»، لأنها تعتقد أن تحرير الأكراد لهذه المناطق يعني استيلاءها عليها بوضع اليد، مما يعني احتمالية تشكيل كيان كردي على حدودها وهو ما ترفضه تمامًا.
معركة تحرير الرقة اليوم تتمرحل من خلال البدء بعزل المدينة عن خطوط الإمداد والتهريب التي يعتمد عليها تنظيم داعش، وتنفيذ ضربات جوية أميركية وفرنسية وبريطانية، للقضاء على بؤر التجمع والذخيرة، ثم اقتحام المدينة من قوات عربية وكردية بغطاء من طائرات التحالف. هذه العملية قد تستغرق شهرين كما أفادت الأنباء، ولن تغير واشنطن من خطتها، لكنها قد تحث الاتحاد الأوروبي على دفع ما تعهد به لتركيا لمساعدتها في إيواء اللاجئين.