خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

عسكر وخفيف الدم

المعتاد أن يسخر ويمزح الجمهور على قادتهم العسكريين والنكات كثيرة في ذلك. حتى الجنرال مونتغمري لم يسلم منها. وعلى الجانب الآخر نرى العساكر يميلون إلى الجدية. بيد أن الجنرال ديغول شذ عن ذلك، فرويت عنه نكات كثيرة. كان ضابطًا وظريفًا في آن واحد. وأكثر من ذلك، شارك في التنكيت على رجال السلاح. التقى يومًا بقائد البحرية الفرنسية فقال له: «أنا معك! الأسطول كثير الفائدة. فهو في أحوال السلام والحالة حسنة، ينزلون من بوارجهم ويبادرون بمغازلة النساء ويخلصوننا منهن. وعندما تتأزم الحالة ويضطرب الحكم ينزلون إلى اليابسة ويعيدون النظام إلى نصابه».
وكما نعرف، أن المعتاد في أن يسخر الجمهور من المسؤولين، بيد أن الجنرال ديغول سخر من شعبه، فأشار إلى تفنن الفرنسيين بالطعام والطبخ. لاحظ يومًا جمهورًا من الدبلوماسيين الأجانب والصحافيين الأجانب وهم ينظرون إلى المنازعات بين الأحزاب الفرنسية، فخاطبهم ساخرًا وقال: «كيف السبيل إلى حكم بلد يأكل الناس فيه 258 نوعًا من الأجبان؟!».
وهي كلمة تذكرني بما قاله الملك فيصل الأول عن العراق حين تساءل: كيف أحكم بلدًا يملك شعبه أسلحة وبنادق أكثر من جيشه؟! وهي والله كلمة تنطبق تمامًا على محنة رئيس وزراء العراق حاليًا الدكتور حيدر العبادي، الذي تحيط به ميليشيات من كل الجهات.
وفي لقاء آخر مع الدبلوماسيين ورجال الصحافة قال الجنرال ديغول: «شكرًا أيها السادة. أمامي صحفكم هذا اليوم بين يدي. سأعرف منها ما هي آرائي وماذا أفكر به».
يعود ديغول فيدغدغ شعبه وغرام حكامه بالولائم ويقول: «كيف يمكن أن يكون المرء وزيرًا ويتعشى خارج بيته كل يوم؟»، ثم قال: «ولكن لو كان الأمر عكس ذلك، لما حصلنا على أي وزراء».
تستمر معه سخريته من وزرائه. دخل يومًا مكتب وزير الخارجية ولاحظ أن الوزير كان مشغولاً يتأمل في خريطة أوروبا المعلقة على الحائط. فقال له من باب النصيحة: «أراك تضيع وقتك. فالسياسة تكون على الأرض ليس على الحائط».
النزاع بين رجال السياسة ورجال الجيش أمر شائع في كل الأمم. فكما لا بد أن نلاحظ مما قلته آنفًا، كان الجنرال ديغول كثير الشكوك في السياسيين، وكل ذلك رغم وقوفه في صدر الحياة السياسية والحكم وتوليه رئاسة الجمهورية. بيد أنه ظل يسخر منهم. فمن حكمه قوله: «لا يعتقد السياسي قط بما يقوله للشعب، ولهذا يندهش كثيرًا عندما يرى الآخرين يصدقون كلامه».
الحقيقة أن ديغول كما نعرف كان رجلاً يضع قدمًا في دنيا السياسة، فأصبح رئيسًا للجمهورية وقدمًا في الأمور العسكرية كقائد محنك قاد جيش التحرير. وهذا ما أعطاه بعد نظر في كل الأمور. وكان منها إخراج فرنسا من الجزائر ومنح الجزائريين حق تقرير المصير. وفي هذه الأيام التي تسعى فيها بريطانيا للخروج من الاتحاد الأوروبي، علينا أن نتذكر كيف أنه ظل معارضًا صارمًا لدخول الأنغلوسكسون إلى القارة.