سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

لا يأس مع ترامب

وصف المفكر الأميركي نعوم تشومسكي انتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة الأميركية، بأنه «ظاهرة فريدة، لم تحدث سابقًا، في أي من الأمم الصناعية الغربية المتحضرة». وهو تحديدًا ما يثير فزعًا في أوروبا من أن يكون خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ومن ثم وصول الملياردير النيويوركي إلى الرئاسة «حليف البريكست» بداية انقلابات جارفة ستغير الخريطة السياسية الغربية. وقبل أن تعلن النتيجة النهائية رسميًا، كانت مارين لوبان، زعيمة حزب «الجبهة الوطنية» الفرنسية اليمينية المتطرفة تهنئ ترامب، وتمنّي النفس بوصول قريب إلى سدة الرئاسة في فرنسا عام 2017. ويسنّ المتشددون الأوروبيون أسنانهم، بعد أن حققوا نصرين كبيرين في كل من بريطانيا وأميركا، إذ وصفت بياتريكس فون ستورش، العضو في حزب «البديل لألمانيا» فوز ترامب بأنه «حدث تاريخي». وجاء كلام رئيسة الحزب، فراوكه بيتري، أكثر وضوحًا وهي تصف حزبها بأنه «كما ترامب، يقف ضد النظم السياسية الحاكمة، ومثله أيضًا يتحدث كمنافس سياسي بديل عن الأحزاب التقليدية». وهلل خيرت فيلدرز، رئيس حزب «حرية هولندا» للحدث العظيم مهنئًا الأميركيين الذين في رأيه «استعادوا بلادهم».
وإذا كان العرب قد بلغ بهم التشظي حد أنهم لم يعد لديهم ما يخسرونه، فإن الغرب لم يكن يومًا منقسمًا، حائرًا، وقلقًا، كما هو عليه بعد ترامب.
جاء فوز الرجل كأنما ليظهر ما كان مخبوءًا وراكدًا. من كان يتصور قبل أيام فقط أن يرى آلاف الأميركيين يتظاهرون في الشوارع احتجاجًا على ما أنجبته صناديق اقتراع ديمقراطية؟ أو أن يسمع هتافات في كاليفورنيا تطالب باستقلالها عن الولايات الأخرى؟ حتى إن بقيت الموجة محدودة في الزمان، فإن مؤشراتها تنبئ، أن ما يعتمل في النفوس يستحق التنبه. اختار الأميركيون الذين تلاقوا وتصالحوا على أرض عمروها معًا، بكفاح أجدادهم، رجلاً، أهم ما وعدهم به الحدّ من الهجرة، وبدء الانطواء على الذات. انتخبوا رجلاً أبيض، لا يحب الألوان، ليحل مكان رئيس كانوا قد اختاروه كيني الأصل من أب مسلم، حتى رفع العالم بأسره قبعاته إجلالاً لتسامح أميركا ورقيها.
كانت أميركا، هذه المرة، بين خيارين؛ إيصال أول امرأة إلى البيت الأبيض، أو أول رجل يطمح إلى أن يقطع مع الماضي قدر مستطاعه، ويغير البنية القائمة. غردت مارين لوبان بمجرد معرفتها بالخبر: «ما يحدث الليلة ليس نهاية العالم، وإنما نهاية عالم»، مبشرة بولادة عصر جديد. لوبان تعلم جيدًا أن الذي انتصر هو رؤية مغايرة، لا ترى في التثاقف والتمازج والانفتاح غنى بقدر ما ترى فيه تهديدًا. رؤية تعادي الأخوة المتمادية بين أوروبا وأميركا، لا بل إن الرجل لا يستسيغ فكرة أوروبا من أصلها. الذي انتصر هو الخوف من الآخر، وبناء الجدران وتعزيز سياسة العزل.
لم يصوت الناخبون لترامب بأفكاره المتناقضة، وإنما ضد هيلاري كلينتون، التي بخطابها وشعاراتها ووعودها، تشبه كل أولئك الذين سبقوها وخيبوا آمال الأميركي العادي. مال الناخبون لملياردير مكشوف الوجه، رجل أعمال بلا أقنعة دبلوماسية، وعبارات منمقة، وكلام إنشائي عن العدالة الاجتماعية والأخلاقيات المثالية. في زمن النعومة الزائفة، تبدو الفجاجة ميزة مستحبة، وحين تقول السياسة شيئًا وتفعل ضده، يصبح الرجل المتخبط أقرب إلى النفس ممن يدّعي قياس عباراته بالمسطرة.
التصويت الاحتجاجي في أميركا، يفتح باب العدوى أمام المتذمرين الأوروبيين. بعض الأميركيين فقدوا بيوتهم خلال الأزمة المالية، ومنهم من رأوا أشغالهم تذهب هباء الريح، ونصفهم لا يستطيعون دفع أقساط جامعات أبنائهم. وفي كل أوروبا يسأل الناس وهم يسددون ضرائبهم، إن كانوا سيجنون تقاعدًا مثل آبائهم، ولا إجابة. وتبقى محنة إيجاد عمل مهمة عصية يتوجب أن تجد لها حلاً بعد أن طال أمدها.
كثرت الاجتهادات مع وصول ترامب، تعالت أصوات المطالبين في أوروبا بإصلاحات جذرية قبل فوات الأوان. ثمة إدراك عميق بأن النيوليبرالية وصلت إلى حائط مسدود، بعد 40 سنة من التغول الرأسمالي. الواحد في المائة من سكان الأرض الذي يستحوذ على نصف الثروة، لم يعد يحظى بالسماحة السابقة. ترك الأمور على غاربها، أو التدخل لإشعال الفتن في بلدان يظن أنها بعيدة، وأن بؤساءها سيموتون كمدًا، في بلدانهم، صار وهمًا قاتلاً.
لا يخطئ اليمين المتطرف حين يتحدث عن ضرورة حل النزاعات المسلحة لمنع المهاجرين من التوافد، مما يعاب على هؤلاء استغلالهم أزمات مواطنيهم ومواجعهم، ليروجوا لسياساتهم كبديل سحري، وهو ما ستتبين سرابيته بوقت قياسي. ما كان يصلح بداية القرن الماضي، بات محالاً بعد الثورة الإلكترونية. الغرب يتهالك وينسحب تدريجيًا تاركًا فراغًا، وتملأ الصين المساحات الخاوية بشبكاتها من قطارات وعلاقات تجارية، وجمعيات صداقة وتعلم لغات. الطامحون إلى ملء الأماكن الشاغرة يتأهبون للانقضاض.
أنجبت العولمة ملياري فرصة عمل، لم تذهب في غالبيتها إلى دول الشمال، بل إلى شرق آسيا، وهو ما حرم الغرب من استثمار أفكاره على أرضه. لكن «العودة إلى الوراء، مجرد حلم سيدمر الجميع»، يقول إيريك لوبوشيه. هذا الصحافي الفرنسي الذي دق ناقوس الخطر، ودعا إلى إعادة بناء الطبقة الوسطى بأقصى سرعة، مطالبًا الدولة بالكف عن اعتبار المعدومين وحدهم أولويتها، وأن تلتفت إلى فئة تزداد غليانًا، مما يهدد بفتح أبواب الانتقام الانتخابي على الطريقة الأميركية.
ليس قبل انتخاب ترامب كما بعده، صاحب كتاب «الطريق إلى القمة» و«فكر كالأبطال»، له مؤلف «لا تيأس أبدًا»، يروي فيه قصص خسائره المالية الفادحة ووصوله إلى حدود الإفلاس، قبل أن يخرج منتصرًا على هزائمه. فهل سيخفق ترامب في الرئاسة قبل أن يصل إلى بر الأمان، أم أنه تعلم الدرس؟