د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

الناشر العربي: اسم على غير مسمى

دائمًا يكون حديثنا عن الثّقافة فكريًا ونظريًا، ونحصر تركيزنا ونقدنا ومؤاخذاتنا على المنتجين للفكرة وللنص وللعمل الإبداعي بشكل عام. ننسى في غمرة النّقاش والنقد أن المنتَج الثقافي هو صناعة أيضًا، وهناك من يراه سلعة ينسحبُ عليها ما ينسحب على كل السلع، من قوانين العرض والطلب وغير ذلك.
طبعًا لا شك في أن الكتاب مثلاً سلعة، ولكنه سلعة ذات خصوصية. وما الانتباه إلى هذا الجانب الاقتصادي في إنتاج الكتاب إلا دعوة إلى توسيع دائرة التركيز، باعتبار تعدد الفاعلين في مجال إنتاج الكتاب الذي يمثل أهم الإنتاجات الثقافية وأكثرها عراقة وتدوينًا للفكر البشري وللثّقافات.
المشكلة أن الأزمة الثقافيّة التي نعرفها اليوم لا يمكن أن نحصرها في نقد النخبة من أهل الكتابة فكرًا وأدبًا. وإذا واصلنا في المقاربة نفسها، واعتماد الفرضية ذاتها، فإن النقد سيكون ناقصًا، وأحيانًا قد يكون خاطئًا.
إن الكتاب في أوله مخطوط، وفي صورته الأخيرة كتاب مطبوع. بمعنى آخر، فإن النشر حلقة مهمة ورئيسية في عملية إنتاج الكتاب، ودون النّشر فإنه لا وجود للكتاب كمنتج قابل للتسويق وللبيع.
من هذا المنطلق، فإن للناشر أهمية قصوى، ووظيفته لها من الدقة ما يجعل الكاتب يحقق وجوده الفعلي والجماهيري من خلاله، بل إن التأثير الثقافي يتمّ عن طريق قاطرة النشر.
فتاريخ صدور أي كتاب هو تاريخ ميلاده، حتى لو كان صاحبه قد كتبه قبل سنوات.
ولكن ما نلاحظه هو أن النّشر في البلدان العربيّة، اليوم، بات إحدى العراقيل الكبرى، والسبب الرئيسي لتعثر التأثير الثقافي الإيجابي، والمعطل المسكوت عنه لأداء مفكرينا وأدبائنا.
فهو - أي النشر في البلاد العربية - ليس عامل تقوية ودعم ودفع للثّقافة العربية.
طبعًا تعاني دور النشر الكبرى والصغرى من صعوبات اقتصادية، والأحداث التي حصلت منذ حرب الخليج الأولى، وصولاً إلى تداعيات الثورات على الحالة الاقتصادية العربية التي تعمقت أزمتها مع تفشي ظاهرة الإرهاب.. كل هذا ضغط على دور النشر، وجعلها تتخلى عن وظيفتها الأصلية. وسقطت حتى دور النشر العريقة في خيارات مخجلة وغير مقبولة، على رأسها أن تطلب من المؤلف المساهمة في تكلفة الكتاب وكأنه ليس منتج الكتاب؛ أي بدل النقاش حول حقوقه بوصفه مؤلفًا، تحولت وجهة النقاش إلى موضوع الإسهام في التكلفة الماديّة للطباعة.
بلغة أخرى فإن المؤلف في الفضاء الثقافي العربي اليوم، خاصة الذي ينتج أدبًا غير مرحب به، للترحيب به، وعلى مضض، لا بدّ من أن يدفع وينخرط في أكثر الظواهر سلبية، وهي ظاهرة النشر على النفقة الخاصة.
وفي الحقيقة، فإن الكتّاب الذين استسلموا لهذه الظاهرة، أو الذين شجعوا عليها، إنّما أسهموا في تأزم الكتاب العربي اليوم، حيث أصبح الأديب العربي مهما كانت جودة نصه الإبداعي مرغمًا على قبول الأمر الواقع. وفي أحسن الحالات، فإنه يتنازل عن حقوقه بوصفه مؤلفًا، ويتعهد بشراء عدد من كتابه تشجيعًا للناشر.
وهكذا أرسى بعض الأدباء المتلهفين على النشر والظهور السريع، قانون الدفع للناشر، ووقعت في هذا الفخ دور النشر الكبرى قبل الصغرى، وذلك من منطلق أن دور النشر الكبرى - اللبنانية مثلاً - أصبحت تستثمر عراقتها واسمها ومصداقيتها في سلوك يقتل المصداقية المتوارثة.
إلى جانب استغلال الكاتب في مجال الأدب، وإعفاء المفكرين الذين يشتغلون على قضايا الإسلام والإسلام السياسي والإرهاب، فإن دور النّشر العربية لا تتجاوز في طباعتها للكتب 300 نسخة، وفي أفضل الحالات 500 نسخة، وهو ما يجعل من جهة التكلفة باهظة جدًا، ولا تتماشى مع المقدرة الشرائية للمواطن العربي الذي يعاني من العزوف على القراءة أصلاً، ومن جهة ثانية من الواضح أن دور النشر هذه لا تراهن على البيع والتسويق، وتطبع لأمة ضخمة الحجم الديمغرافي 300 نسخة، بعد أن كنّا في التسعينات نتأفف من طبع 1000 نسخة.
بيت القصيد: إن الكتاب الذي نراهن عليه لتغيير الذهنية العربية، ولفهم الإشكاليات الكبرى فهمًا علميًا وتاريخيًا وبشكل تحليلي معمق، هو غير موجود واقعيًا وماديًا إلا في عدد قليل، ولا يوزع كما يجب. وهنا يجب أن نتساءل إلى أي مدى يمكن أن نتحدث عن نشر الثقافة في داخل بلداننا، والكتاب، بوصفه أحد أهم محاميل هذه الثقافة، يعاني من تدهور وتأزم على صعيد النشر والتوزيع.
كما أننا والحالة كما رسمناها: هل صحيح أن هناك عزوفًا عن الكتاب والقراءة، أم أن واقع النشر هو المنتج الرئيس لحالة العزوف، إذا ما صح وجودها؟
في الستينات والسبعينات، كانت دور النشر فاعلة ومنتجة ومتحمسة للمنتج الثقافي، وكانت تصنع النجوم وتعلن عن ميلادهم ونضجهم. واليوم، تخلت عن هذه الوظيفة التاريخية؛ وهي استقالة أضرت بمسألة التلقي الثقافي العربي، وجعلت من كلامنا عن الثقافة والفكر والأدب تغلب عليه الهلامية.
لا معالجة ثقافية للواقع العربي اليوم ومجال النشر عاطل عن وظيفته، ودور النشر تحولت إلى دكاكين، لا مشاريع ثقافية كما يجب أن تكون وكما كانت؛ دكاكين تلهث وراء الموضة الثقافية، ولا تولي أي جهد لدورها في التأسيس لمعالجة ثقافية تحتاجها المجتمعات العربية جدًا.