سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

أخلاقيات أميركا

يكشف خطاب الحملة الانتخابية الحامية الوطيس بين الجمهوري دونالد ترامب، والديمقراطية هيلاري كلينتون، للوصول إلى البيت الأبيض، عمق القلق الدفين، والخوف من المجهول الذي يعاني منه المجتمع الأميركي. أمر مضحك بالنسبة لعربي من سوريا أو اليمن، ينام بين النيران ويقتات الفتات. لكن الطمأنينة غادرت ما يقارب 68 في المائة من الأميركيين الذين يعتبرون أن بلادهم تذهب إلى منحدر رديء، في ما 28 في المائة فقط يظنون أنهم يسيرون في الطريق الصحيح. الوضع تحسن عما كان عليه الحال عندما دخل أوباما إلى البيت الأبيض، حيث لم تكن نسبة المتفائلين تتجاوز 19 في المائة، لكن الولايات المتحدة لا تزال مريضة، وأعراضها تستحق التأمل.
أميركا تخرج تدريجيًا من أزمتها المالية، وعدد العاطلين عن العمل يتقلص ولو ببطء، لكن الطبقة الوسطى تعاني وتضحي منذ سنوات، والفقراء في عوز مدقع. ثمن الليبرالية الفاسدة والغنى الفاحش لقلة متفوقة وعدالة اجتماعية مجتزأة، يزن ثقيلاً على غالبية مغلوبة على أمرها.
رغم القوة العسكرية الجبارة التي يصل إنفاقها إلى 583 مليار دولار سنويًا (ثلاث مرات أكثر من الصين)، وشركات سوبرامية عملاقة (53 شركة) تجتاح العالم، وجامعات كاسحة تحتل الترتيب الأعلى على الإطلاق (15 جامعة من أصل أول 20)، بدأت أميركا تفقد تفوقها في هندسة خريطة العلاقات الدولية كما فعلت طوال السبعين سنة ماضية. الاقتصاد الأميركي متين، بل لا يزال الأقوى عالميًا، رغم كل المخاوف. ثمة بنية صلبة في بلاد العم سام، بفضل تشبيك بين مراكز الأبحاث الجامعية وشركات الصناعات الدقيقة، تطوير لا يتوقف للمنتجات البيوتكنولوجية، وعمل غير مسبوق على الروبوتات وتقنيات النانو. لا توجد دولة تستطيع أن تدعي سباقًا تكنولوجيًا مع أميركا، الصين بعيدة أشواطًا طويلة، وبريطانيا الأكثر اجتهادًا متأخرة 18 شهرًا دائمًا عن الأخ الأكبر.
ومع ذلك الولايات المتحدة تئن، ويجد الملياردير دونالد ترامب جمهورًا واسعًا يصفق له ويستجيب لأفكار غريبة تمامًا عن تلك التي كانت أساسًا وفخرًا وطنيًا.
الحيوية والديناميكية الاقتصادية، لم تعد كافية لطمأنة الأميركيين إلى مستقبل أفضل. هناك إحساس عميق أن اليوم ليس كما سبقه، والغد لم يعد مأمونًا. استطاعت أميركا أن تقود العالم باسم «الديمقراطية» و«حرية التجارة» و«حقوق الإنسان». حررت أوروبا من النازية، وقاتلت الاتحاد السوفياتي بهدف إسقاط الجدران والحد من الطغيان الشيوعي.
لكن المعاول كانت لا تزال تتهاوى على جدار برلين، حين وجد جورج بوش الأب نفسه يشكل حلفه الدولي لإخراج صدام حسين من الكويت. ومن الوحول الأفغانية المتحركة التي لا تزال تبتلع الغزاة، جاءت قوات المارينز إلى العراق في حروب متتابعة كانت فيها كذبة «سلاح الدمار الشامل» فخًّا، و«نشر الديمقراطية»، حجة لم تنجب سوى الخراب والموت. خرجت أميركا من أفغانستان مخلفة جحيمًا، وتركت العراق وراءها غابة للوحوش الضالة. بدأت حربًا في ليبيا وهي تعيث فسادًا، ولم تعرف كيف تكمل مهمتها، ادّعت أنها تقف في وجه «داعش» في سوريا، فإذا بها كمن يحارب طواحين الهواء، وسط سخرية بحجم المعمورة. الفشل العسكري لأعتى وأدق جيش في العالم، أسبابه ليست تقنية بل أخلاقية. وأزمة الولايات المتحدة الداخلية ليست اقتصادية بل هي مشكلة قيم ومأزق مبادئ. الفلسفة التي قامت على تبجيل الأقوى، ودعم الأذكى، وتحفيز الأشطر، وصلت إلى ليبرالية موبوءة وبراغماتية ملغّمة بالمصالح والحبائل. خاضت أميركا منذ تسعينات العام الماضي، حروبًا متتالية بلا أي مبرر فعلي أو نتائج مشرفة. وقبل أن تتورط بجيشها واستراتيجيها النبهاء على الأراضي العربية، كانت قد خسرت الرهان على إيجاد حل للقضية الفلسطينية. وبقيت إسرائيل تدير ظهرها لأميركا وهي تشيّد مستعمراتها من جهة، وتتلقى المساعدات المالية والعسكرية مكافأة لها على صلفها من حليفتها الكبرى من جهة أخرى، حتى تشظت المنطقة بأكملها.
أميركا ليست بخير، ففي ظل الرئيس ذي الأصول الأفريقية الذي احتفت به الدنيا وسعدت، ظهرت المواجهات العرقية بين السود والبيض في بلاد المواطنية والحقوق الإنسانية. وبدا أن الأحياء الفقيرة، تزداد تهميشًا وبؤسًا، وأن فساد أصحاب رؤوس الأموال صار أكثر وقاحة، وتفاقمت جرائم السلاح الفردي المتفلت.
خطاب دونالد ترامب، لم يكن ممكنًا، لمرشح لرئاسة البيت الأبيض، منذ سنوات قليلة فقط. التقوقع على الذات، وإغلاق الأبواب والحماية التجارية وطرد المهاجرين، هي تطلعات لناخبين عالمثالثيين، لا لشعب بنى مجده على فلسفة الانفتاح والتلاقح الثقافي. الخوف سمة المهزومين. ولولا إحساس مضمر بالوهن لما كان لرجل بمواصفات برلسكونية، أن يصل إلى السباق الرئاسي، في بلاد تحاسب مرشحيها على أدق أخطائهم، وتبحث في خفايا مساراتهم الشخصية.
ترى «الإيكونوميست» أن الاقتصاد الأميركي قد ينكمش تريليون دولار عام 2021، إذا ما وصل ترامب العجيب إلى السلطة. ماذا ستفعل «آبل» مثلا إذا ما نفّذ الرجل وعده، بمنع الشركات الأميركية من التصنيع في الخارج، هل ستغلق مصانعها في اليابان وتايوان ليرتفع سعر تلفونها ضعف ثمنه الحالي؟ وهل بمقدور الشركات الأميركية المزاحمة عالميًا، من دون اليد العاملة الآسيوية؟
السطوة الأميركية مستمرة، ولن تنتهي غدًا، لكن النظام العالمي الليبرالي الحر، سيكون له وجه، من المفترض أن يكون أقل صلفًا، وأكثر تواضعًا.
كتبت «الواشنطن بوست» عام 2015 «أن الحرب السورية كانت مقبرة للمصداقية الأميركية». لكن، ربما أن ما ضرب سمعة أميركا هي عنجهيتها العسكرية، وجشعها المالي التسلطي، واعتماد جزء كبير من اقتصادها على بيع الأسلحة لمن يرغب في الانتحار، وبالتالي كان لها باستمرار مصلحة قومية، في إشعال الحروب، وهدم البلدان على رؤوس أصحابها والاستفادة من إعادة إعمارها. إنه الدرس الأميركي البشع الذي أن له أن يتوقف!