عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

امتحان أميركا

ليس هناك من خلاف حول خطورة الأوضاع الراهنة في كثير من بقاع العالم وبؤر التوتر فيه، إلى الحد الذي بات يثير مخاوف الناس من احتمال نشوب حرب عالمية جديدة نتيجة الاحتقان، أو بسبب خطأ أو تصرف أحمق من جهة ما. فمن روسيا إلى الصين وكوريا الشمالية، ومن أميركا إلى أوروبا، ومن إيران وسوريا إلى حروب الوكالة وحرب الإرهاب، تبدو خريطة المشكلات والتوترات والصراعات، مثيرة للمخاوف.
في ظل هذه الأوضاع يمكن أن نفهم لماذا تابع نحو 100 مليون شخص في أميركا، إضافة إلى ملايين حول العالم، المناظرة بين هيلاري كلينتون ودونالد ترامب لتصبح الأكثر مشاهدة في تاريخ مناظرات انتخابات الرئاسة الأميركية. فمجرد وصول ترامب إلى هذه المرحلة في السباق نحو البيت الأبيض، بل وتساويه مع منافسته الديمقراطية في استطلاعات الرأي، يعتبر عاملا مثيرا للقلق؛ لأن الرجل يمثل قمة السطحية والغوغائية والجهل بتعقيدات السياسات الدولية.
في فترة من الفترات كان الكثيرون ينظرون إلى ترامب بصفته مهرجا، ولا يرون أي إمكانية لوصوله إلى البيت الأبيض. لكن الأمور تغيرت بعد أن تمكن من الفوز بفرصة الترشح للرئاسة عن الحزب الجمهوري، متجاوزا الانقسامات حول شخصيته، ومدى أهليته لتمثيل الحزب في المعركة للفوز بأهم منصب في السياسة الأميركية. فالرجل لم يعد مجرد مهرج لا حظوظ له، وترشحه لم يعد نكتة سياسية عابرة، بل أصبح واقعا مثيرا للتساؤلات حول آليات اختيار المرشحين، وحول دور ومسؤولية المؤسسات الحزبية. كذلك أثار الأمر مخاوف الكثيرين من احتمال حدوث ما لم يكن في الحسبان قبل أشهر، أي مفاجأة فوز ترامب.
لو كان العقل هو الذي سيحسم معركة الانتخابات الرئاسية، لكان الاختيار واضحا أمام الناس في المقارنة بين المرشحين الأساسيين المتنافسين، خصوصا بعد المناظرة التلفزيونية الأخيرة. فهيلاري كلينتون كانت، بشهادة الكثير من المعلقين الأميركيين، هي الفائزة بالمناظرة؛ إذ قدمت إجابات واضحة، وخططا مفصلة، وفهما عميقا للقضايا والتحديات الماثلة أمام أميركا والعالم. في المقابل، واصل ترامب نهج الشعارات الجوفاء، والكلام الخالي من الجوهر والبرامج المفصلة، وكرر كعادته في هذه الحملة الكثير من الأكاذيب من دون أن يرف له جفن.
عدد من المواقع الإنترنتية ووسائل الإعلام خصصت رصدا مباشرا خلال المناظرة للحقائق، بغرض التأكد مما يدلي به المرشحان، فجاءت النتائج كلها لتؤكد لجوء ترامب إلى نهج قلب الحقائق وتكرار الأكاذيب. صحيفة «نيويورك تايمز» نشرت 27 كذبة لترامب خلال المناظرة، وموقع «الحقيقة السياسية» الأميركي الحاصل على جائزة «بوليتزر» وصف 70 في المائة من مداخلات وتصريحات المرشح الجمهوري التي أخضعها للفحص بأنها كانت إما مضخمة، أو كاذبة، أو مضللة.
لكن كل ذلك لم يؤد إلى انقلاب كبير في استطلاعات الرأي لصالح كلينتون، أو يوجه ضربة قاصمة لترامب وسط مؤيديه، ولا تزال نتيجة المعركة الانتخابية مرتبطة بمواقف نحو 9 في المائة من الناخبين «المترددين» الذين يمكن أن تذهب أصواتهم إلى أي من الطرفين فترجح كفته. صحيح أنه لا تزال هناك مناظرتان مرتقبتان بين المرشحين يمكن أن تشهدا مفاجآت، تحقق انقلابا في المواقف، لكن هذا لا يعني بالضرورة أن هذا الأمر، إن حدث سيكون، انتصارا لهيلاري وتغليبا لصوت العقل.
الحقيقة أن المعارك الانتخابية لا تحسم بالعقل وحده، بل للعواطف والظروف السياسية دورها الحاسم أحيانا. معركة استفتاء بريطانيا حول الخروج من الاتحاد الأوروبي أثبتت أن العواطف والشعارات، يمكن أن تتغلب على العقل والبرامج السياسية العقلانية، وأن الخيار الأسوأ يمكن أن يفوز. كما أن ذلك الاستفتاء، والمعركة الانتخابية الأميركية، يعكسان أزمة الديمقراطية والعولمة، التي يستفيد منها اليمين المتطرف وأصوات الاحتجاج والانغلاق. فقاعدة التأييد الأساسية لترامب هي بين الناخبين البيض، خصوصا في أوساط الطبقة العاملة والفقيرة. هؤلاء يشعرون بالغضب من الطبقة السياسية ويلومونها على مشكلاتهم، ولديهم قناعة بأنهم يدفعون ثمن الضغوط الاقتصادية وتبعات العولمة والانفتاح والهجرة.
إلى جانب هؤلاء، هناك أيضا الشباب الذين يشعرون بالتهميش وبغياب مشكلاتهم عن الأجندة السياسية، لذلك لجأوا إلى حركات الاحتجاج، مثل حركة «احتلوا وول إستريت»، أو إلى الالتفاف حول مرشحين يرفعون شعار التغيير، ويقدمون أنفسهم على أنهم ضد سياسات الطبقة السياسية التقليدية. في اليسار التف هؤلاء حول المرشح الديمقراطي السابق بيرني ساندرز، بينما في اليمين التفوا حول ترامب.
في أوروبا، حيث ينشط اليمين المتطرف وتطغى المشكلات الاقتصادية وقضايا الهجرة والعولمة، يرى الكثيرون أن الانتخابات الأميركية ستكون لها انعكاسات مهمة. أما على الصعيد العالمي، فإن التبعات ليست خافية، خصوصا في ظل التوترات والحروب الراهنة، والأزمات الكامنة سياسيا واقتصاديا.
ينسب إلى القائد العسكري الفرنسي نابليون بونابرت قوله إن «الانتصارات الوحيدة التي لا تخلف ندما، هي تلك التي نتغلب فيها على الجهل». فهل تصوت أميركا ضد الجهل والغوغائية والسطحية، أم تختار مغامرة غير محسوبة العواقب مع ترامب؟