فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

الفنون والحروب.. صراع التذكّر والنسيان

يبدو أنّ الفنان محمد عبده لم يستطع كبح جماح غضبه؛ في ختام حفلته بدبي إذ صاح بالجماهير: «نلتقي في الوطن، لا نريد الفنّ أن يكون في المنفى»، قبلها بأسابيع أحيا حفلةً يتيمة بسوق عكاظ، ومن ثم شاع الحديث عن تأجيل حفلتين له قيل إن السبب يعود إلى موسم الحج. حين يبحر الفنّ ضمن ثقافة يتصل فيها كل شيء ولا ينفصل عن أي شيء، بحيث لا تستطيع إدراك الحدود بين الدين والفن والسياسة يتحوّل الفن إلى ضحية. منذ أوائل عام 2010 والحركة الفنيّة السعودية تعاني من تراجعٍ مخيف، وذلك بسبب البعد السياسي؛ إذ أجلت برامج فنية كثيرة بسبب ما يجري للآخرين في بلدانهم من اضطرابات سببتها التظاهرات، وتبعها الحدث السوري الدموي، والآن يربط البعض بين معركتنا الكبرى ضد المتمردين في اليمن وبين المهرجانات الفنيّة، بينما نستطيع أن نحتفل بالفنون، ونخلّد بالشعر والموسيقى أمجاد أولئك الأبطال وهم يرابطون على الثغور.
ترسم الفنون وشومًا خالدةً على جسد المجتمع، ذلك أنها محتوى للذاكرة، وفضاء للتعبير عن الوجود، وأجلّ وأغمض ما يتركه الفنّ هو «الأثر»، يصف ذلك فيلسوف له مغامراته في محاولات القبض على جوهر الفنون وهو مارتن هيدغر في كتابه «أصل العمل الفني» حين يكتب: «إن ما يتميز به الجمال لا يمكن معرفته بصفته وصفًا محددًا معينًا، يمكن إدراكه في شيء من الأشياء، وإنما يتعيّن وجوده عن طريق شيءٍ ذاتي، تزايد الحسّ الحياتي في التطابق المتناسق بين المخيلة والعقل، إنه بعث حياة في كل قوانا الفكرية، ولعبها الحر، الذي نعيش تجربته في جمال الطبيعة والفن، الحكم الذوقي ليس معرفةً، ومع ذلك فهو ليس شيئًا كما اتفق، فهناك حق عمومي يمكن أن تشيد عليه استقلالية الميدان الجمالي». ثم يشير إلى كون الفن فعل مقاومة لتفاهة الحياة، لأن عمق الفن في كونه إجراء نظرة أخرى على الوجود، ذلك أن أثر وقع الفن يوشك أن يكون حدثًا يشبه الصراع بين العالم والأرض.
والفنّ يكتنز من الذاكرة ما أوشك على النسيان، بل يغدو مستودع ما ينساه البشر، إذ إن الثيمات والعلامات والمقامات هي خلاصة تجارب الأمم مع الحقيقة والوجود والواقع، كلها تنشّأت ضمن مجالات الحرث في الأرض والطبيعة، لتغدو ذاكرة المجتمع مشتتةً موزعةً بين النوتات والمقامات والمجسات والمواويل، هنا يأتي دور النسيان المجتمعي في بناء الأثر الفني.
كل إبداعٍ فني يأتي بعد نسيان لأتذكر بعده، واليقظة التي تسري في الوجدان حين نخالط الآثار الفنية هي شكل الرغبة في إدراك جوهر الفن، الذي لا جوهر ملموسًا له.
حنة آرندت، الفيلسوفة القريبة من وجدان هيدغر ومن قلبه، كتبت مطوّرةً في الأثر الهيدغري الفني، في مؤلفها المهم «الوضع البشري»: «إن هذا القرب من الذكرى الحيّة هو الذي يمكن الشاعر من البقاء ومن الحفاظ على ديمومته خارج الصفحة المطبوعة أو المكتوبة، ورغم أن كيفية قصيدةٍ ما يمكن أن تكون خاضعةً لتنوعٍ كبير من المعايير، فإن (قابليّة الاستذكار) ستحدد بالضرورة استدامتها؛ أي فرصتها في أن تكون دائمًا مرتكزةً في ذكرى البشرية... فإن القصيدة نفسها مهما طال زمن وجودها باعتبارها كلامًا حيًّا في ذكرى الشعر وجمهوره سيكون من الممكن واقعًا أن تتحول إلى شيءٍ ملموس من بين الأشياء، لأن الذاكرة التي وهبت الذكرى التي تتولد عنها الرغبة في الخلود تحتاج إلى أشياء ملموسة لتتذكّر».
تحدّثت عن القصيدة بوصفها أثرًا فنيًا، وكذلك الأمر يجري على كل أصناف الفنون، فنسيان علل الفن وجذره يحقق الدهشة التذكّرية لحظة التذوّق والمرتبط برغبةٍ مستحيلة للتذكر، غير أن الفن يسارع بحراسة النسيان، لأنه ليس معرفةً أو حقيقةً، بل خلاصة آثار ذاكرية منسيّة إلى الأبد.
يأخذ الفنّ مساره الحي حين يتم فهمه، لا بوصفه انغماسًا في شيئية الحياة وفراغها، ولا بتفاهة المنتج، أو عشوائية السلوك الجماهيري الحاضر للمناسبة، بل بوصفه فضاء من الجمل والرموز والأصوات الخالدة المرتبطة بالمجتمع، بل شهد الفنّ طفراتٍ فنيّة عظيمة في أوقات الحروب والأزمات في أوروبا، كان الفن مزدهرًا في أتعس الأوقات وأصعبها، ذلك أنه شريك في الوصف والرسم، وله دوره في تقوية المجتمع حين يمرّ بأوقاتٍ سياسية صعبة، يأتي ذلك فقط حين نجيد فهم الفنّ، متجاوزين التهريج والتفاهة، حينها لا نحتاج لتبرير الحفلات الفنيّة بمنطقٍ سياسي، وبخاصة وأن القيادة السعودية أسست معهدًا ملكيًا للفنون والموسيقى، ومهمته الاعتناء برقي الفن والصعود به من الهواية المحضة إلى التعلّم الأكاديمي المنظّم.
حالات «نفي الفن» التي تحدّث عنها محمد عبده لم تكن لتحدث لو أن هناك حدود مفهومة تقي المجالات المتعددة من الاتصال المعثّر، ولا بد من فصل الفنّ عن المجالات الأخرى، وتنقيته وفصله عن الأمور الأخرى، إذ لا مبرر منطقيًا على الإطلاق أن توقف الحفلات الفنيّة؛ لأنها جزء صميم من وجود الفرد، بل يحدث أن ينتعش في حقب الصراع، وعلى حدّ وصف هيدغر: «فإن العمل الفني يرتكز إلى فعالية النزاع بين العالم والأرض».