عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

.. وما هي حلب؟

في مواسم الانتخابات الأميركية كثيرًا ما يفاجئنا بعض المرشحين بتصريحات مثيرة للجدل، أو كاشفة عن جهل فاضح إزاء قضايا مهمة خصوصًا في مجال السياسة الخارجية. هذا الأمر لم يكن سيعني الكثير لولا أن أميركا تلعب دورًا كبيرًا في مسرح السياسة العالمية، بمركزها المالي والاقتصادي وبقوتها العسكرية، وبالتالي فإن قرارات ساستها تؤثر على حياة الكثير من البشر حول العالم.
آخر نموذج في مسلسل الجهل الفاضح والمخيف كان ما حدث مع المرشح الرئاسي الليبرالي غاري جونسون الأسبوع الماضي خلال مقابلة مع تلفزيون «إم إس إن بي سي» سئل فيها عما سيفعله بخصوص الوضع في حلب إذا كان رئيسًا. جونسون بدا مستغربا وسأل: «حول ماذا»؟ وعندما أعيد عليه السؤال صمت برهة قبل أن يذهل الجالسين أمامه بقوله: «وما هي حلب»؟
السائل المشارك في تقديم البرنامج لم يصدق نفسه فقال للمرشح الرئاسي: «أنت تمزح»؟ جونسون بالطبع لم يكن يمزح، وأكد ذلك بقوله «كلا».
حدث ذلك في الوقت الذي كانت أخبار حلب ومأساتها في كل مكان. في الصحف والتلفزيونات وفي الإنترنت، وفي المؤتمرات الصحافية، واجتماعات وزيري الخارجية الأميركي جون كيري ونظيره الروسي سيرغي لافروف. الأزمة السورية مستمرة منذ خمس سنوات حدثت فيها الكثير من الفظائع، وأميركا ضالعة في الحرب الدائرة بأكثر من طريقة ولديها عدد من الجنود على الأرض، وطائراتها تقود منذ عامين الحرب الجوية على «داعش» في هذا البلد. بعد كل ذلك يسأل جونسون: ما هي حلب!
لو نظر المرء إلى حلب من زاوية الحرب الراهنة، لعرف أنها تكتسب أهمية كبرى لموقعها الاستراتيجي قرب الحدود التركية، ومركزها كأكبر المدن والمحافظات السورية من حيث التعداد السكاني، وهي العاصمة الاقتصادية، وكثيرًا ما قيل خلال النزاع الحالي إن من يسيطر على حلب سيكسب الحرب. من الناحية التاريخية فإن حلب من أقدم المدن المأهولة في العالم، وفيها تنوع ثقافي ضارب في التاريخ، ومن يقرأ عنها سيعرف تراثها الإسلامي، وعمرانها الذي يحفظ الكثير من المراحل.
جونسون لا يعرف شيئا من ذلك، لكنه لم يتورع عن الكلام العمومي عما وصفه لاحقًا بالفوضى السورية. قد يسأل البعض من هو الرجل، لأن اسمه قد لا يكون معروفًا في معركة يطغى عليها عادة مرشحا الحزبين: الجمهوري والديمقراطي. جونسون الذي فاز بمنصب حاكم ولاية نيو مكسيكو مرتين وحكم ثماني سنوات، يحظى اليوم وفقًا لاستطلاعات الرأي بتأييد 11 في المائة من الناخبين، وهي نسبة لم تتأثر حتى بعد فضيحة «ما هي حلب».
صحيح أن حظه بالفوز في انتخابات الرئاسة يكاد يكون معدومًا، لكنه يمثل ظاهرة من ظواهر الانتخابات الأميركية التي يخوضها أحيانًا سياسيون أو أشخاص من خارج عالم السياسة لا يتمتعون بالمعرفة أو الحنكة التي يتوقعها المرء من أولئك الذين يريدون الوصول إلى قمة الهرم السياسي، والتحكم في مصائر الناس. هناك هفوات وزلات لسان، وهذه كثيرة وقد تكون مفهومة أو مبررة أحيانًا. لكن هناك أيضًا جهلاً لا يمكن تبريره بل يصبح مدعاة للسخرية وللتشكيك في أهلية المرشح، بل وللتخوف منه.
في معركة انتخابية فيها شخصية مثل المرشح الجمهوري دونالد ترامب، لا يجب التوقف عند تصريح جونسون وحده خصوصًا أن الرجل لا يملك فرصة حقيقية للفوز. فترامب الذي ينافس بقوة على الرئاسة في مواجهة منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون، أثبت مرارًا وتكرارًا جهلاً فاضحًا ومخجلاً بقضايا السياسة الخارجية، وحتى الداخلية أحيانًا. كما تبنى مواقف مثيرة للقلق، وأدلى بتصريحات مثيرة للجدل، إلى الحد الذي جعل الكثير من الجهات تصفه بالمهرج والغوغائي، وتعتبره خطرًا على أميركا والعالم.
في مارس (آذار) الماضي بعدما التقى مجلس تحريرها مع دونالد ترامب لأكثر من ساعة في جلسة للحوار والأسئلة والأجوبة، كتبت صحيفة «الواشنطن بوست» افتتاحية أكدت فيها قناعتها بعدم أهلية الرجل لقيادة أميركا، قائلة إنه إذا انتخب فإن البلد سيكون قد أقدم على «مخاطرة راديكالية» بوضعه في البيت الأبيض. وشددت الصحيفة على جهل ترامب الفاضح، وإصراره على تجاهل الحقائق والأدلة، ولجوئه إلى ترديد الكلام الأجوف.
وحتى لا تتهم بالتحيز نشرت «الواشنطن بوست» على موقعها الإلكتروني المحضر الكامل للجلسة لكي يطلع الناس بأنفسهم على إجابات المرشح الرئاسي، ومراوغاته للتهرب من الأسئلة، وركونه إلى الكلام العائم والشعارات الجوفاء. ولخصت الجلسة معه بالقول: «إن سلة فارغة من السياسات، تجعل من شبه المستحيل إجراء حوار ذي معنى مع الرجل».
بعض الناس يراهن على أن ترامب لن ينتخب، وأنه إذا حقق المفاجأة وانتخب فإنه سيتغير. هذا الكلام لا تسنده الحقائق والشواهد الماثلة أمامنا في شخصية الرجل التي إن دلت على شيء فإنما تدل على أنه سيكون بجهله، وعنجهيته، وغوغائيته، خطرًا كبيرًا وحقيقيًا.