عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

أميركا «تنعى» صحافتها الورقية

يوم أمس لم يكن عاديًا للصحف الورقية الأميركية، أو فلنقل لتاريخ الصحف في الولايات المتحدة. فاعتبارًا من أمس عدل «اتحاد الصحف (الورقية) الأميركية» اسمه، فأسقط كلمة الورقية وتبنى اسمًا جديدًا هو «اتحاد وسائل الأخبار».
التغيير لم يكن خطوة عادية؛ لأن الاتحاد الذي أنشئ عام 1887 كان الممثل الرسمي للصحف الأميركية والمدافع عن مصالحها، بما في ذلك كبريات الصحف، مثل «الواشنطن بوست» و«النيويورك تايمز». وكان الاتحاد يضم في عضويته حتى عام 2008 نحو 2700 صحيفة، لكن بحلول العام الحالي تقلص عدد أعضاء الاتحاد إلى نحو ألفي صحيفة، بعد أن توقف عدد كبير من الصحف، ومنها صحف كبرى، عن الصدور نهائيًا، أو اكتفى بنشر نسخ إلكترونية مستغنيًا عن النسخ الورقية. الأسباب تمثلت في المنافسة من الإنترنت وانتشار ثقافة القراءة المجانية، مما أدى إلى تراجع التوزيع وانخفاض الدخل الإعلاني مقابل ارتفاع تكاليف النشر، بما في ذلك ارتفاع تكلفة الورق والطباعة.
رئيس «اتحاد الصحف»، أو «وسائل الأخبار» كما أصبح اسمه، ديفيد شافيرن، أوضح في مقابلة مع صحيفة «النيويورك تايمز» أن سبب تعديل الاسم يعود إلى أن تعبير الصحف الورقية فقد معناه لكثير من الصحف، بما فيها الصحف الكبرى التي بات عدد قراء نسخها الإلكترونية أعلى بكثير جدًا من قراء نسخها الورقية. كما أن تغيير الاسم فتح باب العضوية أمام المواقع الإخبارية الإلكترونية التي أصبح بعضها يتمتع بشعبية كبيرة تتجاوز شعبية بعض الصحف التقليدية.
«الرابطة الأميركية لمحرري الصحف (الورقية)» التي ظهرت إلى الوجود رسميًا عام 1922 لتمثيل رؤساء تحرير أو مسؤولي تحرير الصحف الورقية، اتخذت خطوة مماثلة قبل فترة، وأسقطت أيضًا كلمة «الورقية» من اسمها الذي أصبح «الرابطة الأميركية لمحرري الأخبار».
هذا التعديل في المسميات يعكس جانبا من الأزمة التي تواجه الإعلام التقليدي ككل، وليس الصحف وحدها، في عصر الإنترنت. فالإذاعات التقليدية تواجه منافسة اليوم من إذاعات الإنترنت التي تنتشر بسرعة كبيرة، كما أنها تواجه ضغطًا من التلفزيون ومن توجه الشباب للاستماع إلى الموسيقى من هواتفهم الجوالة أو من أجهزة مثل «الآيبود»، وكذلك لانشغالهم مع الألعاب الإلكترونية. التلفزيونات أيضًا تواجه مشكلة مع توجه كثير من الناس وخصوصًا في قطاعات الشباب، لمشاهدة البرامج والأفلام عبر الإنترنت، ومن خلال شاشات الكومبيوتر والهواتف الجوالة وليس جهاز التلفزيون. وفي كثير من الأحيان يلجأ هؤلاء لمشاهدة ما يريدون عبر اليوتيوب من دون إعلانات.
لكن الصحافة الورقية تواجه التحدي الأكبر مع التراجع المستمر في التوزيع وفي مداخيل الإعلان، وهو التحدي الذي دفع كثيرًا من الصحف إلى التوقف عن الصدور نهائيًا، بما في ذلك صحف عربية بالطبع، أو إلى الاستغناء عن الطباعة لصالح النشر الإلكتروني. المفارقة أنه مع تراجع توزيع النسخ الورقية فإن معدل القراءة ارتفع مع ازدياد عدد القراء للنسخ الإلكترونية، لكن هذا الارتفاع بقي من دون عائد مادي، بل في كثير من الأحيان زاد العبء المالي على الصحف التي استثمرت في النشر الإلكتروني لكنها لم تحقق عائدات تغطي تكاليفها الإضافية. هذه الضغوط المالية اضطرت الصحف إلى إجراء تعديلات هيكلية لخفض نفقاتها، بإجراءات صعبة شملت تقليص عدد العاملين في كثير من الأحيان. فعدد الصحافيين العاملين في الصحف الأميركية مثلاً تقلص من نحو 43 ألفًا في أواخر السبعينات إلى 33 ألفًا في العام الماضي.
الصحف الورقية التي صمدت طويلاً في مواجهة التلفزيون والإذاعات، بدأت تعاني مع بزوغ عصر الفضائيات وتمكن القنوات التلفزيونية من عبور الحدود والانتشار عبر القارات. لكن التحدي الأكبر للصحف جاء مع عصر الإنترنت، وتغير عادات القراءة وانتشار ثقافة القراءة المجانية بين الناس. وتفاقمت التحديات مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وظهور ما يسمى أحيانا بصحافة الجماهير، حيث بات الناس العاديون ينقلون الأخبار والأحداث والصور من مواقع الأحداث، ويتبادلونها عبر «فيسبوك» و«تويتر» أسرع من الصحف ومراسليها في كثير من الأحيان. هذا الأمر دفع الصحف إلى التقاط الأخبار أيضًا من الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي التي يطلق عليها بعض الدارسين لقب «السلطة الخامسة» لقدرتها الواسعة على التأثير في الرأي العام، علمًا بأن النقل من الإنترنت كثيرًا ما أوقع وسائل الإعلام في مطب الأخبار المغلوطة.
الصحافة لا تزال تحاول التكيف مع تغيرات عصر الإنترنت ومواجهة تحدياته، وتبحث في كيفية بيع المحتوى، وحمايته من «قرصنة» المواقع التي تنقل محتوى وسائل الإعلام الأخرى من دون أن تتكبد خسائرها ومصاريفها. كذلك تبحث الصحف عن كيفية تحقيق دخل من النشر الإلكتروني بما في ذلك المداخيل الإعلانية، وعن كيفية تحقيق التفاعل الفوري مع القراء وجذبهم بتطوير المحتوى. فالنجاح في هذه المعركة مصيري للصحف، ما دام الوسيط الأساسي بينها وبين القراء يصبح تدريجيًا هو الإنترنت وليس الورق.