رضوان السيد
كاتب وأكاديميّ وسياسي لبناني وأستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية
TT

يرضى القتيل وليس يرضى القاتل!

أظهر وزير الخارجية الأميركي حرصًا شديدًا على إرضاء الحوثيين لإعادتهم إلى طاولة المفاوضات. وهو في سبيل ذلك أتى إلى الرياض، واجتمع إلى المسؤولين السعوديين واليمنيين، وطلب الموافقة على تشكيل حكومة وحدةٍ وطنية تتوازى بل تسبق قضايا ومشكلات نزع السلاح وإطلاق سراح المعتقلين، والخروج من المدن المحتلة، وفكّ الحصار عن تعز والنواحي الأخرى. ورغم أنّ ذلك كلَّه مُخالفٌ للقرار الدولي والمبادرة الخليجية ومخرجات الحوار الوطني؛ فإنّ الحكومة الشرعية وافقت على «المحاولة»، وذهب المبعوث الدولي ولد الشيخ أحمد إلى مسقط للقاء الحوثيين والعفّاشيين، الذين فاجأوه بالاختفاء والظهور في العراق في مجلس وزير الخارجية العراقي العظيم إبراهيم الجعفري، الذي كان قد طلب من سفير المملكة العربية السعودية مغادرة البلاد، لأنه تذمَّر من كثرة التهديدات بالقتل في الإعلام من جانب زعيمٍ ميليشياوي دون أن تحرك السلطات العراقية ساكنًا! ووزير الخارجية إيّاه ظلَّ طوال عامٍ وأكثر وفي سائر الاجتماعات العربية والإسلامية، يتنافسُ مع وزير الخارجية اللبناني الأشوس، في إظهار الولاء لإيران، ورفض إدانة إحراق السفارة السعودية بطهران، والقنصلية بمشهد! وكان يمنيون وعراقيون قد أخبروني بأنّ «فلانًا» الذي كان حتى عام 2013 بمكتب المالكي، وهو الآن عند الجعفري، كان مسؤولاً عن تمويل الحوثيين وتدريبهم باليمن وخارجها، إلى جانب إنجازات نصر الله وسليماني في هذا السياق.
وفي حين أظهر وزير الخارجية الروسي فرحًا ورضى عن تهجير البقية الباقية من أهل داريا بعد الحصار والبراميل المتفجرة وقنابل النابالم؛ فإنّ وزير الخارجية الأميركي عبّر عن عدم سروره عن العملية التي رعاها الصليب الأحمر الدولي، لكنه وفي اليوم التالي ردَّ على الأتراك الذين اتهموا الأكراد بتهجير العرب والتركمان من قرى وبلدات شرق الفرات وغربه، وأكد أنّ قوات سوريا الديمقراطية انسحبت من منبج (بغرب الفرات)، وهي تستعد لتحرير الرقة من داعش!
وما حدث في داريا ومنبج ومدن وبلدات كثيرة بين سوريا والعراق واليمن، يوشك أن يحدث لحي الوعر بحمص تحت وطأة الحصار والبراميل والقنابل الفراغية. وقد استغاث السوريون كثيرًا بعد إقفال طريق الكاستيلو بحلب مقدمةً لتهجير رُبع مليون سوري، وما أبَهَ أحد لهم باستثناء شكاوى من بعض الجهات الإغاثية بالأمم المتحدة. لكنْ عندما فكّ المسلَّحون المعارضون الحصار واستولوا على معبر الراموسة؛ فإنّ الروس والإيرانيين.. والأميركيين.. ودي مستورا انزعجوا وأظهروا اهتمامًا شديدًا بإغاثة الأحياء الخاضعة للنظام و«حزب الله» بغرب حلب ومن طريق الكاستيلو بالذات. وقد ارتفع صوت دي مستورا الخفيض عادةً في وجه مسلَّحي المعارضة وحمَّلهم المسؤولية، لأنهم أرادوا أن تقترن إغاثة أهل الغرب، بإغاثة أهل الشرق من طريق الراموسة، ولماذا هذا الانزعاج؟ لأن الروس قالوا إنّ الهدنة ليومين، لا تشمل طريق الراموسة، وسيواصلون قصفها أثناء الهدنة العظيمة لأن المعارضين المسلَّحين لشرق المدينة بينهم إرهابيون لا يريدونهم أن يرتاحوا. وهنا قال الأميركيون إنّ المسلَّحين المعارضين مخطئون، وعليهم وعلى داعميهم الأتراك «الإصغاء لصوت العقل»!
ووسط الجدل الدائر على طبيعة المبادرة الأميركية للحلّ في اليمن، والهدنة الروسية المنتقاة بحلب، كانت وسائل الإعلام والتواصُل تعرض صُوَرًا لفرحة أطفال داريا المهجَّرين برؤية الخبز والحلوى لأول مرةٍ منذ أربع سنواتٍ وأكثر في مخيماتهم الجديدة بجوار إدلب.
وإلى أطفال داريا والوعر وجوبر ومضايا والمعظمية بسوريا - والخالدية والقيارة بالعراق، وتعز وسرت باليمن وليبيا، والذين يفجؤهم القتل أو التهجير، كان الأطفال السعوديون على الحدود مع اليمن يُقتلون بمقذوفات الحوثيين، وتُعلن «وحدة الصواريخ» أنها ستنال ببالستياتها الإيرانية سائر أنحاء المملكة، ساخرةً من لهفة كيري على إنقاذهم!
المقتولون في سائر الساحات عربٌ صغارٌ أو كبار. أمّا الأسلحة فهي روسيةٌ أو أميركية، بل وبعض الأنواع الخفيفة والمتوسطة من صنع إيراني في تقليدٍ لنماذج كورية وصينية (!). أما القاتلون أو المتوسطون لوقف النار، فهم روسٌ وأميركيون. وقد فاجأنا بالظهور مع كيري بالرياض للتوسط للحوثيين وزير الدولة البريطاني أيضًا، وهو حرصٌ محمودٌ من جانبه، معروفٌ عن البريطانيين في حقبة احتلالهم لجنوبي اليمن والعراق والأردن وفلسطين! والدليل الأوضح لهذا الحرص التاريخي ظاهرٌ في مصائر تلك البلدان التي نعِمت باحتلالهم، قبل أن يعودوا لمشاركة الأميركيين في احتلال العراق عام 2003!
إنّ المقصود هنا ليس إثارة الأحقاد على الأميركيين أو الروس، فقد تجاوزت الأمور ذلك إلى مآلٍ آخر هو وقائع العجز والارتهان، وبخاصة في بلدان الاضطراب. فالذين شاركوا السلطات القائمة وإيران في إثارة الاضطراب أو الإفادة منه، هم الذين يفرضون أنفسهم الآن، سواء في دور القاتل أو في دور الراعي للحلّ. أمّا الواقعةُ الأخرى المفجعة فهي أنّ المعترضين على هذا النظام الدولي المسيطر، هم الذين يمعنون في القتل في الجمهور العربي، الذي من المفروض أنهم أتوا أو ثاروا من أجل تحريره. ماذا يقول المرء عما فعله «الدواعش» و«القاعديون» في مناطق العرب وأهل السنة بالعراق وسوريا وليبيا واليمن وسيناء وتونس والجزائر؟ ومن هو الوحش الأسطوري.. هل هو بشار الأسد وإيران أم أبو بكر البغدادي وباقي أبطال الانتحاريات وقطع الرؤوس؟ وهكذا فإنّ العجز العربي ذو وجهين متلازمين أو مقترنين: واحد داخلي، والآخر أو الآخرون إقليميون ودوليون. وإذا قيل: لكنّ السياسات الإقليمية والدولية هي التي أنتجت هؤلاء، فالجواب: لماذا مكّن «القاعديون» و«الداعشيون» الإقليميين والدوليين من رقابهم، بل وأسهموا في تمكينهم منا؟! قبل أسابيع وجَّه حسن نصر الله نداءً حارًا لـ«الدواعش» يدعوهم فيه للتصالح أو التهادُن، ما داموا جميعًا «مؤمنين»، ومُعادين للأميركان!
ما العمل وما هي المخارج؟ لا بد من سعْي يتحدى الأهوال، ولا بد من نقدٍ ذاتي ومراجعات. ولولا أنّ نصر الله اغتصب مفرد المقاومة، لقلت إنّ المقاومة أو الصمود الذي تشهده مجتمعاتنا، ويظهر في عزائم رجالنا ونسائنا رغم الكوارث المحيقة، هو البداية الصالحة والضوء الساطع في آخر النفق. ما عانى مجتمعٌ مثلما عانى المجتمع الفلسطيني أو السوري، أو اليمني، وما فقدوا الأمل ولا أعرضوا عن الكفاح، ولا استكانوا للهزيمة. وهذه ليست إنشائيات بل هي دماءٌ ودموعٌ وعزائم في الوقت نفسه، وإباءٌ للخديعة والخضوع. بالأمس وعندما احتل الأكراد منبج أخرجوا لنا خمس أو ست نسوة يصرخن ويهللن فرحًا بالانتصار! وفي الأيام القليلة الماضية ذهب بعض الوجهاء العرب والمسلمين ورجال الدين إلى غروزني بالشيشان ليشهدوا مع رمضان قديروف الاحتفال في ذكرى والده، وخطبوا ضد الإرهاب والتطرف، وبينهم إلى جانب الشيوخ الكبار مفتي النظام السوري أحمد حسّون وعشراتٌ ممن نعرف أو لا نعرف. نحن ما شاركنا في القتل هناك، وليس لنا أو علينا الاحتفاء بالقاتل ميتًا كان أو حيًا. إنّ ديدننا قوله تعالى: «إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون، وترجون من الله ما لا يرجون»:
يريدون مني أن أُغني باسمهم
وأي قتيلٍ باسم قاتله غنّى